من يحيى بن ماسويه إلى يحيى بن جنيد: كيف أَحْيَا "يحيى" المخطوط العربي في السعودية؟ *
*
أُعدَّ هذا المقال في فترات متباعدة، وجُمِع شتاته مع إعلان معهد المخطوطات
العربية بالقاهرة اختيار أستاذنا "شخصية العام للبحث التراثي بالوطن العربي"
٢٠٢٥م.
في أسماء
الناس شيءٌ من أقدارهم، وفي بعضها ظلٌّ من الأدوار التي تعود وتتشكل. ومن بين تلك
الأسماء التي لم تَغِب عن سجلِّ المعرفة العربية، اسمٌ ظل يتردَّد في عصر التدوين
البغدادي: طبيبًا وفيلسوفًا، ومحدِّثًا وفقيهًا، راويًا ولغويًا، ورّاقًا وكاتبًا،
مسلمًا ومسيحيًا ويهوديًا، فارسيًا وعربيًا وروميًا، زاهدًا ومستزيدًا، إشراقيًا
وبرهانيًا، اسمٌ آخَى بين العلوم والثقافات والأديان والأعراق والطبقات، وكأنَّ
القدَر يستدعيه حين تحتاج المعرفة إلى منطقٍ يُعيد ترتيبها، والكتاب إلى من ينسخه
ويجمعه ويدرسه، ألم يقل الحق -جلّ في علاه- {يا
يَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖ}؟
ليس "يحيى"
في تراثنا مجرد اسمٍ لفردٍ، بل هو نفسٌ تُبعث في لحظات التحول: حين تُبنى العلوم
وتُنسج المقولات، وتُجمع الكتب وتُنسخ المقالات. يظهر "يحيى" في سِيَر
أولئك الذين مدوا أيديهم إلى المعرفة، فأحيَوها تأليفًا، وتعليمًا، وتدريسًا،
ووقفًا.
وما بين
يحيى بن ماسويه في القرن الثالث الهجري، ويحيى بن جنيد في القرن الخامس عشر، ألفٌ
عامٍ وتزيد، وسيرةٌ طويلة من "الإحياءات"؛ وكأن الاسم لا يكتفي بأن
يُطلق على الأشخاص، بل يُسمِّي أدوارًا حضاريةً بعينها: الطبيب الذي يُترجم،
والفيلسوف الذي يُجادل، واللغوي الذي يُحرِّر، والورَّاق الذي يَنسخ، والمؤسِّس
الذي يُحيي المكتبةَ من موَاتها.
ولعلَّ ذلك ما يجعل "يحيى" في تراثنا أقرب إلى صفةٍ وظيفية منه إلى مجرد اسم. وإذا جمعنا ثلاثة من أعلام هذا الاسم، ثم ألقينا نظرةً على أثرهم، فسنرى كيف ظلّوا يُحْيون شيئًا واحدًا: الكتاب، مضمونًا وتراثًا ومؤسّسةً.
وُلد
يحيى بن ماسويه في جُنديسابور، تلك المدينة الفارسية التي حملت ميراث الطبّ
اليوناني-الهلنستي، ثم صبَّته في قالبٍ سرياني-إسلامي عند منتصف القرن الثاني
الهجري. انتقل إلى بغداد بطلبٍ من الرشيد مع والده الطبيب ماسويه، المُثقل بتعاقب
الأيام، فشبَّ في كنَف بيت الحكمة، و"قلَّده الرشيد ترجمة الكتب القديمة
الطبية، مما وجِد بأنقرة، وعمُّورية، وبلاد الروم، ووضعه أمينًا على الترجمة، ووضع
له كُتَّابًا حُذَّاقًا يكتبون بين يديه" حتى تولى رئاسة الأطباء زمن
المأمون، وأشرف على عمليات الترجمة الكبرى بنفسه، فسافر لاستخراج الكتب اليونانية
من بلاد الروم، ودرَّس الطب باللسان العربي في أولى تجاربه التعليمية المؤسِّسة،
وكان من محاسن الأقدار أنه اغتاظ من سؤالات أحد تلاميذه فطرده، فارتدَّ الطالب بعد
سنينَ يسيرةٍ ليكون أعظم ناقلٍ للمعرفة إلى العربية، فكان حُنين بن إسحاق!
ترك ابن
ماسويه تصنيفات تُظهر صيغته الخاصة في تصنيف المعرفة، من أشهرها: كتاب "النوادر
الطبية"، وهو نادرة كاسمه، وكتاب "الأزمنة".
ومن اللافت أن ابن ماسويه جاء من جُنديسابور إلى بغداد يحمل معه تراث الطب القديم، كما جاء ابن جنيد من مكة إلى الرياض، يحمل هاجس الكتاب المخطوط، حتى استقر به النوى في مدينةٍ أصبحت له ساحةً للإحياء، وبيتًا جديدًا للحكمة، وبين الرحلتين قرونٌ، لكن الغاية واحدة: الاشتغال على الكتاب بجميع همومه ومشكلاته. فكما أسهم ماسويه في بناء بيت الحكمة العباسي، أشرف ابن جنيد (العباسي نسبًا) على تشغيل وإدارة مكتبة الملك فهد الوطنية بوصفها الذاكرة الثقافية للمملكة، تحت رعاية مباشرة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض، وأغنى رصيد المكتبة بعشرات الآلاف من المطبوعات وآلاف المخطوطات.
أمّا فرق
ما بينهما، فجِدُّ عظيم، فابن ماسويه تكسَّب من صنعة الطب ألف ألف درهم، وكاد أن
يعصف بخزانة بيت المال عندما أخذ مرة ثلاثمئة ألف درهم، وخصَّ بعلمه الخلفاء
والأغنياء دون اعتبارٍ أخلاقي لشرف المهنة ولا لقَسَم أبقراط، أمَّا ابن جنيد ،
المُتخلِّق في المشيمة، فتبرَّع في حفل توديعه بالمكتبة بما مقداره ألفي ألف درهمٍ
لصالح إدارة التزويد فيها، وهو أمر لا يُطيقه ابن ماسويه ولا والده ماسويه! ولا
ابن عقيلٍ الظاهري -كما تحدَّث عن ذلك- ولا كاتب هذه السطور.
*
* * * * * * *
أما يحيى الفَرَّاء، الذي عاش في بلاط الرشيد وابنه المأمون مع ابن ماسويه، فقد أحيا معاني اللغة بكتابه الخالد "معاني القرآن"، فكان الطلاب والوراقون يزدحمون في حلقته لتدوين إملاءاته، واحتفظ المأمون بنسخٍ منها في خزانته، وحفظ الوراقون نسخًا لبيعها بعد حين بثمنٍ باهظ.
أما فضله
على اللغة، فيكمن في اختزاله وقدرته على البيان بأخصر العبارات وأبلغ الكلمات،
وحُقَّ قولُ تلميذ تلاميذه الأخفش فيه: "لولا الفرَّاء ما كانت عربية؛ لأنه
خلَّصها وضبطها، ولولا الفرَّاء لسقطت العربية؛ لأنها كانت تتنازع ويدَّعيها كلُّ
من أراد، ويتكلَّم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب".
وُلد
الفرَّاء بالكوفة في منتصف القرن الثاني الهجري، وتتلمذ على أعلامها ثم وفِد إلى
بغداد، وهناك بزغ نجمُه في مجلس المأمون، حيث صار يُقرِئ ابنيه، ويعقد حِلَقَه في
جامعها. وكانت بغداد مهجعًا لطلاب الدين والدنيا، وملتقى للمذاهب المتنافرة، فيحدِّث
فيها الكوفيون والبصريون ويكيدون لبعضهم، ولم يسلم صاحبنا الكوفي من هذه الدسائس،
فكان يُملي على طلابه آراءً من أقوال سيبويه -خصم أستاذه الكسائي- دون نسبتها
إليه، بل منسوبةٌ إلى أستاذه الخليل بن أحمد.
ولم يقدَّر
لهذه الصنيعة أن تظهر إلا بعد وفاته، حين قدِم الجاحظ إلى بغداد ليبتاع هديةً
للوزير المثقف الزيَّات، فوجد مناديًا يُنادي: "من أراد أن يحضر بيع كتب
الفرَّاء فليحضر"، فحضر فلم يجد في كتبه شيئًا يستحسنه، فلما بيعت كتبه، رُفع
فراشه الذي كان ينام عليه ليُباع، فوجِد تحت وسادته "كتاب سيبويه"،
فنودي عليه، فبالغ فيه الجاحظ حتى اشتراه، فيقول الجاحظ معلقًا ومعتبرًا: "ولم
ينتفع الفرَّاء بالنظر في هذا الكتاب كبير نفعٍ؛ لأنه لم ينظر فيه نظر ناصحٍ
لنفسه، ولا شاكرٍ لمن وصل إليه العلم من جهته، ولا معترفٍ بالحق فيه، ولا صادقٍ في
روايته عند ما أخذ منه، فإنه سرق بعضًا وادَّعاه لنفسه، وستر حق صاحبه فلم يشكره،
ونقل عنه مسائل وعزاها إلى الخليل". وصنيعه يُذكِّرنا بصنيع الفيلسوف
الإنجليزي الليبرالي جون ستيوارت ملّ الذي أدركته المنيَّة وهو يحتضن الجزء الأول
من كتاب "رأس المال" لماركس.
ويُحفظ
للفرَّاء -رحمه الله- أنه كان يفرِّق ما جمَعه كل عامٍ من متاع الدنيا إذا قفل
عائدًا إلى موطنه في الكوفة، فيمكث أربعين يومًا لا يُبقي ولا يذر من ماله شيئًا
إلا ما يُقيم حاجته.
وإذا كان الفرَّاء قد أحيا اللغة من داخل حلقات التفسير والنحو، فإن يحيى بن جنيد -خرِّيج اللغة العربية بالمرحلة الجامعية- خدمها بقلمه ومن داخل مؤسساتها الحديثة، ووضع لبناتٍ لا تزال ماثلة إلى اليوم. فقد كان المشرف على إصدار مجلة "الدراسات اللغوية" الصادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية منذ أكثر من ربع قرن، وما زالت المجلة منتظمة في الصدور إلى اليوم، وهي بحقيقة، واحدةٌ من أعرق المجلات اللغوية المحكَّمة في المملكة، ورافدٌ هامٌ للباحثين في علوم العربية، ويُحفظ لرئيس تحريرها أ.د. تركي بن سهو العتيبي فضله في تطويرها طوال الفترة الماضية.
كما أشرف ابن جنيد، من موقعه أمينًا عامًا بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ثم من موقعه رئيسًا لـمركز البحوث والتواصل المعرفي، على طباعة عددٍ كبيرٍ من الكتب التراثية اللغوية، التي أعاد من خلالها وصل الحاضر بجذور اللغة، من كتبٍ في النحو والبلاغة، إلى رسائل في المعاني والبيان، إلى نصوصٍ نادرةٍ من التراث اللغوي، ليس آخرها كتاب "العُباب الزاخر واللُباب الفاخر"، بعد أن توصَّل أستاذنا لنسختين خطِّيتين في بلاد ما وراء النهر. إلى جانب تأسيسه "مجلة الفيصل الأدبية" وعشرات النصوص اللغوية المنشورة في مجلته "عالم المخطوطات والنوادر"، ومن أبحاثه المبكِّرة: الأدب العربي في المملكة العربية السعودية: حصر ببليوجرافي من عام ١٣٥٦-١٤٠٤هـ.
ومن
الطبيعي، بعد هذا المسار، أن يكون ابن جنيد اليوم عضوًا في مجلس أمناء مجمع الملك
سلمان العالمي للغة العربية، يشارك في صياغة السياسات اللغوية، ويُستشار في بناء
المعايير، ويراجع مفاهيم التخطيط اللغوي الحديث.
ثم إنَّ
بين الرجلين تقاطعًا لا يقل أهمية في المسلك والسلوك: فقد عُرف عن الفرَّاء زُهده،
فكان لا يحتفظ بما جمعه من متاع الدنيا، وهكذا كان الجُنيد العباسي فقد تبرع
بنصيبه من جائزة الملك فيصل العالمية عام ١٤١٨هـ إلى جمعيةٍ خيريةٍ في المدينة
المنورة.
**************
ثم نصل إلى ثالث اليحيَويِّين، يحيى بن عَدي، الورَّاق المسيحي الذي جعل من بغداد ميدانًا للترجمة والحوار، وانتهت إليه معارف أهل المنطق، وأناخ ببابه صِوَان الحكمة. نشأ في وسطٍ ثقافي تتقاطع فيه الأديان والمذاهب، وأنشأ حلقةً علمية استوعبت تلاميذ من شتى الخلفيات، يتعلمون الفلسفة ويتمرَّنون على الجدل، ويشتغلون على نقد النصوص كما صنع أستاذهم ابن عَديٍ في مطارحته أبي عيسى الورَّاق، الذي رُمي بالزندقة. ومن عجبٍ هي مهنة الوِراقة، فقد جمعت في باحتها يهودًا ونصارى ومسلمين وملاحدة، فيهودي ينسخ الآي الكريم، ومسيحي ينسخ تفسيره، ومُلحدٍ ينسخ ردودًا عنه.
روى
النديم في كتابه "الفِهرست" مَشهدًا دالًّا على ذلك في حياة صاحبنا،
يقول: "قال لي يحيى بن عَدي يومًا في الورَّاقين، وقد عاتبته على كثرة نسخه،
فقال: من أي شيءٍ تعجب في هذا الوقت؟ مِن صبري! قد نسختُ بخطي نسختين من التفسير
للطبري وحملتهما إلى ملوك الأطراف وقد كتبتُ من كتب المتكلمين ما لا يُحصى ولعهدي
بنفسي وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة وأقل".
وبعد مرور ألف عام على وفاته (٣٦٤هـ)، وُلد ابن جنيد (١٣٦٦هـ)، الذي جاء إلى حقل التراث المخطوط من خيوط الوِراقة، فالورَّاق الذي ينسخ الكتب يحتاج إلى فهرسٍ يضبطها، ويُعرف بها، وهذا ما فعله منذ شرخ شبابه حين تولَّى قسم المخطوطات والوثائق في المكتبة العامة بجامعة الملك سعود، وصنع تسعة فهارس لمخطوطاتها، إحداها عن مخطوطات السيوطي.
وفي
الجانب الفلسفي، حدَّد ابن جنيد مرتكزات البناء الثقافي في مؤلفه "المجتمع
العربي من سيادة العلم إلى وحل الخرافة"، وتتبَّع فيه كيف كانت الفلسفة
والعلوم التجريبية وصفةً للتمدن والازدهار الحضاري.
هكذا
تبدو المسافة بين الرجلين طويلة زمنيًا، متّصلة معرفيًا؛ فالأول بنى حلقة فلسفية
في دُكَّانه بسوق الورَّاقين، والثاني بنى مؤسساتٍ علمية ورثت أوراق وكنَّاشات ذلك
الجيل! وتلميذ الأخير يغزِل من اختلاف نُسخ الورَّاقين ما ينقُض نِسبَة كتاب "تهذيب
الأخلاق" للأول، ويستعيد للنص نَسَبه المرجَّح وسط ضجيج الصراعات المذهبية.
************
ولولا
محدودية المقال، لذكرنا أسماءً شكَّلت علاماتٍ فارقة في طريق المعرفة العربية من
يحيى بن معين المحدِّث إلى يحيى بن سرافيون الطبيب، ومن يحيى بن أكثم الفقيه إلى
يحيى بن علي المنجِّم.
ولكلٍّ
منهم وقفةٌ تستحق التأمل، ندرك من خلالها أن هذا الاسم -يحيى- كان سلسلة من
الحيوات العلمية، تتجدَّد عبر الأجيال، وتُطلُّ على كل عصرٍ من بابٍ يناسبه: تارةً
من الترجمة، وتارةً من الطب، وتارةً من الوِراقة، وتارةً من منصة القضاء والفُتيا.
***************
وإذا كان في تراثنا من حمل اسم يحيى وأحيا به النص، فإن في تاريخنا الحديث من مارس هذا الفعل الإحيائي نفسه، دون أن يحمل ذات الاسم، بل حمل الرسالة نفسها. ولعل الشيخ طاهر الجزائري (١٨٥٢-١٩٢٠م) هو أقرب الأسماء العربية المعاصرة إلى مشروع الدكتور يحيى بن جنيد، لا من جهة التأليف والتحقيق وجمع المخطوطات والفكر المستنير والاتصال بالمستعربين وجمع كوكبة من الطلاب النجباء فحسب، بل من جهة تأسيسه مكتباتٍ وطنيةٍ خالدةٍ إلى اليوم.
في دمشق، حوّل طاهر الجزائري مخطوطات عشر مدارس متفرقة إلى مكتبة وطنية عمومية (المكتبة الظاهرية)، وجمع إليها آلاف المخطوطات، تحت رعاية مدحت باشا، ثم فُتحت للجمهور نحو عام ١٨٨٠م، وأصبحت نموذجًا جديدًا لصيانة التراث وتيسير تداوله، بعد دار الكتب الخديوية بالقاهرة (١٨٧٠م)، كما ساعد الجزائري في إنشاء أول مكتبة عربية عمومية (المكتبة الخالدية) في القدس عام ١٩٠٠م، عندما أعان الحاج راغب الخالدي. هذا الدور المؤسسي يُقابِل بدقة ما قام به الدكتور يحيى بن جنيد بعد مئة عام، حين أشرف على تشغيل مكتبة الملك فهد الوطنية، ووضع حجر الأساس لمشاريع الببليوغرافيا الوطنية والفهرسة والإتاحة وحفظ الذاكرة الثقافية السعودية.
كما كان
الجزائري مُفتشًا للتعليم ومُؤلفًا للمناهج الدراسية في اللغة والدين والتاريخ،
ربط من خلالها بين التعليم والهوية اللغوية، وبين المعرفة والتنظيم الرسمي. وهذا
يقابل صلة ابن جنيد بالعمل الجامعي في جامعتي الملك سعود والإمام محمد بن سعود، في
قسمَي المكتبات والمعلومات، وفي تحريره لأبرز المجلات العلمية المتخصصة، فضلًا عن
إسهاماته المبكرة في مجال المخطوطات والمطبوعات المبكرة، وتأسيسه لمركز البحوث
والتواصل المعرفي.
ثم إن
طاهر الجزائري حين غادر إلى القاهرة، حمل معه تراث الشام إلى مصر، واتصل بأعلام
التراث المعاصرين، أمثال أحمد زكي باشا وأحمد تيمور باشا، وواصل خدمة المخطوط
وطباعته ونشره، وبيعه عندما يضطر للصرف على حاجيَّاته، وهو ما يُشبه في مسار ابن
جنيد شبكة الشراكات العلمية مع الباحثين العرب والمستعربين التي رعاها خلال عقود
عمله في مؤسسات علمية وثقافية، أبرزها كانت في برنامج الباحث الزائر بمركز الملك
فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
************
ومن خارج العالم العربي، تبرُز سيرة المستعرب الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي (١٨٨٣-١٩٥١م) بوصفه أعظم مستعربٍ شرقيٍ خدم المخطوط العربي، لا يُجاريه ولا يُباريه أحدٌ، ترك أكثر من ستمئة مقالة علمية عن التراث العربي، انتخبت أكاديمية العلوم السوفياتية منتخباتٍ منها في ستة مجلدات في نحو ٤٥٠٠ صفحة، إحداها كان كتابه الخالد "مع المخطوطات العربية" الذي تُرجم للغات الأوربية قبل ترجمته للعربية عام ١٩٦٣م.
ترك كراتشكوفسكي عشرات المقالات عن المخطوطات العربية لم تترجم إلى اليوم، وساهم في نشر مصادر تراثية لم تنشر قبله، أشهرها "رسالة الملائكة" للمعرِّي، والتي اكتشفها في الخزانة الأزهرية، ودرسها عشر سنين، وهي الرسالة التي حملت قلم فيلسوف الفريكة، أمين الريحاني، على قوله: "إنكم معشر المستشرقين لمن أعجب الناس لأنكم من أقربهم إلى تلك القوة الإلهية التي تحيي العظام وهي رميم! وكأني بالمعرِّي أبي العلاء، وقد علم بما أحييتم من آثاره يقول متواضعًا: ما ظنناها والله تتجاوزنا سنًا، وها هي تفوقنا بنحو ألف سنة، إنه لعجيب أمرها". وهو صاحب أسبق ترجمةٍ كاملةٍ للقرآن الكريم إلى الروسية.
بدأ
كراتشكوفسكي اشتغاله العملي في مكتبات سانت بطرسبرغ منذ مطلع القرن العشرين، حيث
تولّى إدارة ما كان يُعرف بـ"الخزانة العربية في المتحف الآسيوي"، وكتب
وصفًا دقيقًا لمئات المخطوطات في مجموعات قازان، وتوبنغن، وبسكوف، وغيرها، مما
جعله مرجعًا في فهرسة المجموعات العربية المخطوطة في روسيا.
وإذا رام
المتعلم معرفة منزلة الأكابر، فليُطالع بحث المأسوف عليه كراتشكوفسكي عن "أسباب
شهرة مجنون ليلى" إذ ساق فيه نفي أئمة العربية وجود هذه الشخصية، ثم أخذ في
مناقشتها، منتهيًا إلى خلاف ما ورثناه، وبكينا في محرابه.
هذا
الاشتغال الموسوعي يجد نظيره بشكل أقل تواضعًا في سيرة الدكتور يحيى بن جنيد، الذي
اشتغل بالمخطوط العربي من عدة مواقع: مُحققًا ودارسًا وناقدًا وجامعًا ومفهرسًا
ومصاحبًا في حلٍ وسفر.
أما
الجامع الدقيق بين الرجلين، فهو الرؤية المنهجية للمخطوط بوصفه مشروعًا معرفيًا
حضاريًا لا مادةً تراثية: كراتشكوفسكي درس المخطوط في الخارج ليعيد تقديمه إلى
الداخل العربي، ولذلك يزخر أرشيفه الوثائقي بمراسلات علمية مع طه حسين ومحمود
تيمور وأمين الريحاني وغيرهم، وابن جنيد درس المخطوط من الداخل ليُعيد تنظيمه نحو
العوالم العربية والإسلامية. ومن الموافقات اللطيفة بينهما أنّ كليهما استجلب
مصحفين كوفيين للمكتبة الوطنية السوفييتية والسعودية! فتأمل.
وأستاذنا
يجد نفسه في سيرة كراتشكوفسكي "عن المخطوطات العربية" لأنّ كليهما متيم
بالمخطوط العربي ومنكر لذاته، وأوقعني في عشقه، فجمعت له جملة مقالات عربية عن
التراث، كانت في طي النسيان. ولذلك يحلو لي أن أطلق عليه "كراتشكوفسكي
الجزيرة العربية".
************
هكذا
تمتدُّ خيوط هذا المشروع الثقافي عبر الزمان والأمكنة: من دكَّان يحيى بن عَدي في
سوق الورَّاقين، إلى بهو الظاهرية في دمشق مع طاهر الجزائري، وصولًا إلى صالات
المكتبات الكبرى والمراكز البحثية الحديثة التي أشرف عليها يحيى بن جنيد، والذي
اجتمعت فيه خيوطٌ من حيوات أسلافه العِلميين، فكانت سيرته ضربًا من الإحياء
المعاصر لسيرة المخطوط والتراث العربي.
************
وُلد الفتى يحيى بن جنيد في مكة المكرمة عام ١٩٤٧م، ونشأ فيها نشأةً وادعةً بين جبالها ووهادها، حيث تلقَّى مراحل تعليمه الأولى فيها. ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة الطائف، وهناك أتمَّ المرحلة الابتدائية، وواصل فيها دراسته المتوسطة، وأسس مكتبته الشخصية الأولى كما يحكي أخوه بهجت في تباريحه.
غادر
الفتى يحيى مكة المكرمة جسدًا لكنه لم يغادرها فكرًا وثقافة، فهو المؤرخ لحياتها
الثقافية في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد أهدى كتابه هذا إلى روح صديقه في
مدارج العلم أبي عمَّار الأديب عبدالعزيز الرفاعي، اعترافًا بفضله، وتقديرًا
لعلمه، ونُبله.
ويبدو أن
الكهل يحيى لا ينفكّ حنينًا إلى مرتع صباه، تتداعى في ذاكرته معالم عمارتها المكية
العتيقة، ويشتاق إلى محبوبته التي طال مكوثه بعيدًا عنها، وهو في مدارج السبعين من
عمره، فإذا بهذا الشوق يتجلَّى لنا في بديعته الفريدة: "جدلية الرِّواق:
أزمنة العمارة المكية للمسجد الحرام"، وقد أهدى هذا الكتاب لمهندسي الحرم
الشريف في القرون السالفة؛ أولئك الذين بنوا له روحه يوم أن كان صبيًّا، ثم بنى
لهم ذاكرته وهو شيخ.
*
* * * * * * *
في أواخر
المرحلة المتوسطة، بدأ يحيى يُراسل مجلةً حديثة الإصدار آنذاك هي "مجلة قريش"
المكية، التي أسَّسها الأديب والصحفي البارز أحمد السباعي، فنشرت له مقالاتٍ عدة
في عام ١٩٦٣م، منها: ابن جرير الطبري، وحرية الكلام في مجالس الخلفاء، والمكتبات
وأثرها في الثقافة العامة.
وتُظهِر
هذه المقالات الثلاث وعيًا مبكرًا بثلاثةٍ من أركان مشروعه الثقافي اللاحق:
الانشغال بالتراث وأعلامه، والتأمل في المفاهيم الفكرية الكبرى، والإدراك العميق
لوظيفة المكتبة في تكوين الإنسان والمجتمع.
وبعد
إتمام المرحلة الثانوية في الطائف، التحق بكلية الآداب في جامعة الرياض -الملك
سعود حاليًا، وتخصَّص في قسم اللغة العربية، حيث حصل على درجة البكالوريوس عام
١٩٦٩م.
في تلك
المرحلة الجامعية، انصرف إلى التهام كتب الأدب العربي بشغفٍ، فقرأ منها ما شاء
الله أن يقرأ، حتى وصل به المطاف إلى قراءة السيرة الشعبية "سيرة الأميرة ذات
الهمة" الصادرة في سبعة مجلدات، وتعلقت همته بهمَّة بطلها: أبو محمد البطَّال
الأنطاكي، الفارس اليمني الذي خاض معاركَ ضاريةً ضد الروم، فأوجعهم كرَّا وكرَّا،
فليس في قاموس البطَّال الفرار! هذا البطل تجسَّد أسطورةً شعبيةً في نهاية العصر
الأموي، وروت صحائف الأدب والتاريخ أخباره بين الحقيقة والأساطير، فانبرى البطل
يحيى لتدوين سيرته الحقيقية، فكان أول مؤلَّف له عام ١٩٧٠م، ضمن سلسلة "المكتبة
الصغيرة".
وبعد
تخرُّجه، عُيِّن أمينًا لمكتبة الجامعة حتى عام ١٩٧١م وكانت تسمَّى بـ"المكتبة
العامة"، ثم تولَّى رئاسة قسم المخطوطات والوثائق (١٩٧١-١٩٧٣م)، وهو المنصب
الذي شكَّل أول احتكاكٍ مهنيٍ مباشر له بالمخطوطات العربية، وفَتح له باب الاشتغال
العلمي والببليوغرافي الذي سيمتد أثره لعقود لاحقة. وكان تأسيس القسم على يد
المرحوم د. عبدالله الوهيبي، الذي قال في تباريحه عن يحيى: "لقد كانت له
الأيادي البيض على مكتبة الجامعة، ولا سيَّما قسم المخطوطات فيها، فهو كان الدافع
الأقوى لإنشائه وترسيخه".
*
* * * * * * *
في هذه
الفترة نشَر الشاب يحيى تسعة فهارس لمخطوطات الجامعة، تناول في سبعة أجزاء مخطوطات
الجامعة، ونشرةً خاصةً بمخطوطات السيوطي، وأخرى عن المخطوطات المصوَّرة من المدينة
المنورة. ويحتفظ تلميذه بنُسخٍ أصليةٍ من هذه الفهارس، عليها تعليقات الجُنيد الشاب،
وهي تُنبئ عن فحصٍ ومعرفةٍ موسوعية بالتراث العربي، وبحثٍ مضنٍ في المصادر
والمراجع، قبل زمن "المكتبة الشاملة" والرفيق "جوجل".
وأثناء تصنيفه لمخطوطات الجامعة عثر على نسختين خطيتين من كتاب "إهداء اللطائف من أخبار الطائف" للعجيمي (ت١١١٣هـ)، فحنَّ لمراتع صِباه وذكريات الفتوَّة، فنشر هذا الكتاب مُحققًا عن خمس نسخٍ خطية عام ١٩٨٠م عن دار "ثقيف" لصاحبها وصاحبه الأديب الطائفي عبدالرحمن المعمَّر، صديقه ورفيقه في الحرف والوفاء، رحمه الله رحمةً واسعة.
بعد
سنواته الوظيفة الأولى بالجامعة، نال بعثةً علميةً إلى الولايات المتحدة
الأمريكية، حيث التحق بجامعة ميزوري، وحصل منها على درجة الماجستير في عِلم
المكتبات والمعلومات عام ١٩٧٦م. وقد شكَّلت هذه الدراسة مرحلةً فاصلةً في مسيرته،
إذ أتاحت له الاطلاع المباشر على أحدث ما توصَّل إليه علم المكتبات من نُظُم
ومعايير فهرسةٍ وتصنيف، فبدأت تتبلور لديه ملامح مشاريعه الكُبرى في الببليوغرافيا
الأدبية، وتأريخ النشر السعودي، وهي المشاريع التي شُغِل بها الجُنيد المكتبي.
بعد عودته، عمل محاضرًا ورئيسًا لقسم التزويد في عمادة شؤون المكتبات بجامعة الملك سعود بين عامي ١٩٧٦-١٩٨٠م، فكان مسؤولًا عن بناء المجموعات المخطوطة والمطبوعة، وهذه حقبة لم تُدرس بشكل جيد، بل كل المجموعات السعودية المخطوطة عدا مكتبات المدينة المنورة وبعض المكتبات الأخرى، لا نملك تصورًا دقيقًا مدوَّنًا لكيفية بِنائها.
في هذه
السنوات، شُغِف الجُنيد بالنشر الإحصائي والتحليل الكمي للكتاب السعودي والعربي،
فنشر جملة كتبٍ ودراسات، يطول الحديث عنها، كان أشهرها كتاب "حركة التأليف
والنشر في السعودية خلال (١٣٩٠-١٣٩٩هـ)"، مستكملًا عملًا ببليوغرافيًا سابقًا
عليه، وأحصى في كتابه هذا ٧٩٦ كتابًا. كما أصدر حصرًا مختصًا بالأدب العربي في
السعودية من عام ١٣٥٦هـ حتى عام ١٣٩٩هـ، أحصى فيه ٧٤٧ كتابًا، وقد صدر الكتابان
معًا في عام ١٩٧٩م. وقد مثَّلت هذه الأعمال تحوُّلًا في مسار الكتابة
الببليوغرافية في المملكة، إذ جمعت بين الرصد الوصفي والتحليل الثقافي، وشكَّلت لبِنةً
أولى لما سيكون لاحقًا مشروع الفهرسة الوطنية.
وفي
منتصف العام التالي (١٩٨٠م) أطلق مع صاحبيه (الرفاعي والمعمر) أول مجلة متخصصة
(عالم الكتب) تهتم بالكتب المطبوعة والمخطوطة في المملكة، أو كما يقول صاحبنا،
رئيس تحريرها: "التنقيب عن نوادر المخطوطات التي لا زالت حبيسة خزائن الكتب
في مختلف أنحاء العالم ودراستها والتعريف بها وتحقيق الرسائل الصغيرة منها"،
وستختص هذه المجلة بالكتب المطبوعة فقط، بعد إطلاق صاحبنا مجلةً محكَّمةً في مجال
المخطوطات عام ١٩٩٦م. واستمرت المجلة (عالم الكتب) في الصدور حتى عام ٢٠٢١م،
وستعود للصدور مجددًا بعد أشهر يسيرة -بإذن الله تعالى-.
ثم انتقل
الأستاذ يحيى إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -لسبب أو أسباب نتركها
لمذكراته الشخصية- وفيها حصل على بعثةٍ دراسيةٍ إلى مصر، فالتحق بـكلية الآداب في
جامعة القاهرة، حيث أعدَّ رسالة الدكتوراه بعنوان "الاختيار والتزويد في
المكتبات الجامعية بالمملكة العربية السعودية" بقسم المكتبات والوثائق،
ونالها عام ١٩٨٣م، بإشراف العالم المعروف الدكتور عبدالستَّار الحلوجي، الذي
سيتقاسم معه لاحقًا جائزة الملك فيصل العالمية عام ١٩٩٨م.
وبعد
حصوله على الدكتوراه، عُيِّن أستاذًا مساعدًا ورئيسًا لقسم المكتبات والمعلومات
بكلية العلوم الاجتماعية بين عامي ١٩٨٤-١٩٨٧م، ثم رُقِّي إلى أستاذ مشارك، فأستاذ.
وأسس في تلك الفترة "شعبة المخطوطات" بقسم المكتبات والمعلومات، كأول
شعبة مختصة بالمخطوطات في المملكة، وتفرع عنها مسار لتسجيل رسائل الدراسات العليا
في المخطوطات كرسالتي أ.د. راشد القحطاني عن "خدمات المخطوطات في مكتبات
مدينة الرياض" ورسالة أ.د. عبدالرحمن العبيد عن "تنمية مجموعات
المخطوطات في المكتبات الجامعية في السعودية". كما أسهم في تنمية رصيد الجامعة
من المخطوطات الأصلية والمصورة مع صاحبه عميد شؤون المكتبات أ.د. عبدالله عسيلان،
كما أشار في مذكراته.
في هذه
المرحلة، عكف الباحث يحيى بن جنيد على إعداد كتابين سيشكِّلان نقطة تحوُّل واضحة
في مسيرته العلمية. فقد انتقل بهما من موقع الأستاذ الجامعي الذي يكتب ليترقى
أكاديميًا، إلى باحث يُشار إليه في الدراسات العربية والإسلامية بوصفه مرجعًا في
مجالات تصنيفه.
الكتاب الأول، هو "الوقف وبنية المكتبة العربية"، وقد نشره أول مرة عام ١٤٠٨هـ، وحاز به بعد عشر سنوات جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام ١٤١٨هـ، وترجم إلى الفارسية والتركية، كما نُقل جزء منه إلى الإنجليزية. هذا العمل يعد أشمل ما كُتب عن وقف الكتب في تاريخ الثقافة العربية، خاصة في طبعته الثالثة التي أصدرها عن مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية، ويُعدُّ أستاذنا قريبًا إبرازةً رابعةً للكتاب -بإذن الله تعالى- تشتمل على تحديثات وإضافات نوعية.
أما الكتاب الثاني، فهو "وضعية المخطوطات في المملكة العربية السعودية إلى عام ١٤٠٨هـ"، وكان في تلك الفترة بحثًا قُدِّم في مؤتمر، قبل أن يطبع بعدها بسنوات، وهو يمثل بداية واضحة لاهتمامه بالبحث الوطني المتصل بالمخطوطات، لا على مستوى جامعته الأولى جامعة الملك سعود، بل على مستوى المملكة كلها. فقد اشتغل على رصد وتوصيف مجموعات المخطوطات في المكتبات العامة، والجامعية متتبعًا عددها، وموضوعاتها، وتواريخ نسخها بحسب القرون، وآليات حفظها وفهرستها.
وهناك كتابٌ
ثالث نشره في تلك المرحلة، امتدادًا لأعماله الببليوغرافية السابقة، هو كتاب "النشر
في المملكة العربية السعودية: مدخل دراسة" ذكر في مقدمته مشكلة غياب
الببليوغرافيا الوطنية الرسمية.
هذه
الأعمال النوعية، أهَّلته في منتصف عام ١٤٠٧هـ/١٩٨٧م للعمل مستشارًا علميًا
ومشرفًا على المرحلة التشغيلية الأولى لمكتبة الملك فهد الوطنية، واضطلع بمسؤوليات
التأسيس وبناء الهياكل الإدارية والعلمية. وكُلِّف قبلها بجمع المطبوعات
والمخطوطات للمكتبة ضمن لجنة مؤقتة، استعدادًا لافتتاحها نهاية عام ١٩٨٩م.
في ذات
العام، كُلِّف بمنصب أمين المكتبة، وهو الموقع الذي ظلَّ فيه حتى منتصف عام
١٤١٦هـ/ أواخر عام ١٩٩٥م، وكان له فيه إسهامٌ تأسيسي بالغ الأثر في بناء المكتبة
كمرجعية وطنية للمخطوطات والوثائق والكتب والدوريات وغيرها من مصادر المعرفة،
وإصدار عدة أنظمة تشريعية، أهمها: نظام الإيداع عام ١٩٩٢م، ونظام حماية التراث
المخطوط الذي صدر بعد مغادرته للمكتبة.
والحديث
عن إسهامات يحيى بن جنيد في تأسيس مكتبة الملك فهد الوطنية يطول ويتشعب؛ فقد كانت
تجربته فيها محورية في تاريخ المكتبات السعودية، من حيث التخطيط والبناء والتأسيس
العلمي. ومن أراد التوسع في ذلك، فليطالع أعداد نشرة "أخبار المكتبة"
التي كانت تصدر تباعًا خلال تلك المرحلة، وتوثِّق باختصار تطور المكتبة منذ
تأسيسها، وما استُحدث فيها من سياسات وإجراءات.
وسنقتصر
هنا على الجوانب المتصلة بحقل المخطوطات، وهو الحقل الذي أولاه ابن جنيد عنايةً
خاصة، سواء من خلال رسم سياسات الاقتناء والفهرسة الأولية، أو الأبحاث، أو
التشريع.
استطاع
ابن جنيد من خلال عضويته في مجلس أمناء المكتبة، أن يُقدم عددًا من المقترحات
المؤسِّسة في مجال صيانة التراث المخطوط، أبرزها اقتراحه في عام ١٩٩٢م بوضع نظام
وطني لحماية المخطوطات في المملكة. وقد أُسنِد إعداد هذا النظام إلى عضوي المجلس:
أمين المكتبة د. يحيى بن جنيد، ود. عباس صالح طاشكندي، فعملا عليه بالتعاون مع
فريق، وانتهت المسوَّدة بعد دراسات مطوَّلة إلى إصداره رسميًا تحت مسمى: نظام
حماية التراث المخطوط في المملكة العربية السعودية عام ٢٠٠١م، لتُصبح المملكة بذلك
ثاني دولة عربية تقر نظامًا مستقلًا لحماية هذا الإرث الثقافي.
وفي
العام التالي، وتحديدًا خلال الاجتماع التاسع عشر لمجلس الأمناء عام ١٩٩٣م، طرح
ابن جنيد مشروعًا وطنيًا جديدًا بعنوان: دراسة الوضع الراهن للمخطوطات في المملكة
العربية السعودية، يؤسس امتدادًا لعمله السابق الذي نُشر تحت عنوان وضعية
المخطوطات في المملكة قبل ذلك بأعوام.
سعى هذا
المشروع إلى تقييم شامل للمجموعات الخطية في المملكة من حيث التبعية الإدارية،
والتوزيع الموضوعي، ودرجة الإتاحة، ومستوى التجهيزات الفنية، وخطط الترميم
والصيانة. وقد ضم الفريق العلمي لهذا المشروع كلاً من د. عباس طاشكندي، والمرحوم
د. عبدالوهاب أبو سليمان، ود. عبدالله عسيلان، وآخرين من الباحثين المتخصصين في
المجال، وللأسف لم تستكمل الجهود المؤسسية في ذلك، وبقي بحث ابن جنيد وحيدًا في
المجال إذا ما رُمنا الدراسة الموضوعية حتى ذلك العام.
ومن جملة
المقترحات التي قدَّمها، فكرة إنشاء مركز وطني مستقل لترميم وصيانة المخطوطات،
نظرًا إلى وجود ملايين الوثائق، وعشرات الآلاف من المخطوطات في المملكة، كثيرٌ
منها كان في حاجة ماسَّة إلى المعالجة والترميم، ولا تكفي لمعالجته المعامل
المحدودة التابعة لبعض المكتبات.
وقد طرح
هذا المقترح ونوقش ضمن اجتماعات مجلس أمناء المكتبة، غير أن المشروع لم ينطلق رغم
مرور السنوات، ورغم تجدد الحاجة لإنشاء هذا المركز، كما في تجربة الجمهورية
التونسية، التي أنشأت منتصف التسعينيات الميلادية -في ذات الفترة- مركزًا وطنيًا
مستقلًا باسم "المخبر الوطني لصيانة وترميم الرقوق والمخطوطات"
بالقيروان، وهو يُعدُّ اليوم نموذجًا متقدمًا على المستوى العربي.
كما وافق
مجلس الأمناء في ذات الاجتماع على مقترحه بإنشاء معهد لأبحاث المكتبات والمعلومات،
يتولى وضع الدراسات والبحوث ذات العلاقة بقضايا المكتبات في المملكة ووسائل
تطويرها ومعالجة مشكلاتها، ولم يقدَّر للمقترح التنفيذ رغم استيفاء دراستها من
اللجنة المختصة، ولعل من أسباب ذلك الميزانية، والاكتفاء بأقسام المكتبات في
الرياض، مع أن ما كان يرمي إليه ابن جنيد مختلفًا جدًا، فهذا المعهد للتدريب
والدورات القصيرة، وكان سيكون له أثر على النهضة المكتبية في مدينة الرياض، لو قُدِّر
له العمل، ولله في خلقه شؤون.
ومن بين
المقترحات المهمة التي طرحها، الدعوة إلى جمع أعمال المثقفين السعوديين الراحلين
ومسودات كتاباتهم ومراسلاتهم الخاصة من ذويهم، بوصفها جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة
الفكرية الوطنية. وقد أكد على ضرورة تأسيس مجموعات خاصة لحفظ أوراق هؤلاء المثقفين
ضمن المكتبة الوطنية.
وتستند
هذه الفكرة إلى ما تقرِّره عدد من التشريعات العالمية، التي تُدرج مسودات الكُتَّاب
ومراسلاتهم ضمن مقتنيات المكتبة الوطنية، فضلًا عن أن القانون النموذجي لحماية
المخطوطات العربية (١٩٨٧م) ينص صراحةً في مادته الأولى على اعتبار المادة "مخطوطة"
إذا تجاوز عمرها خمسين عامًا وكانت ذات قيمة علمية أو فكرية، وقد فصَّل التلميذ
ذلك في بحثه الموسوم بـ "مفهوم التراث المخطوط بين القانون العربي الموحد
والقوانين العربية لحماية المخطوطات".
ورغم
أهمية هذا المشروع، إلا أن تنفيذه لم يتم بشكل مؤسسي شامل، واقتصر على محاولات
جزئية ومبادرات متفرقة، في بعض المكتبات الجامعية أو الجهود الفردية. ولا تزال
الحاجة قائمة إلى تأسيس أرشيف وطني للمثقفين، يُدار بمنهج علمي، ويوثِّق مرحلةً
كاملة من التحول الثقافي والفكري في المملكة، ويمكِّن الباحثين من دراسة النصوص في
سياقها الزماني.
*
* * * * * * *
أما في
مجال اقتناء المجموعات الخطية، فإن المتصفِّح لأعداد مجلة "أخبار المكتبة"
التي صدرت خلال تلك المرحلة، يلحظ حجم الجهد الذي بذله يحيى بن جنيد في استجلاب
أهم وأغنى المجموعات الخطية الخاصة إلى مكتبة الملك فهد الوطنية.
ومن أبرز
ما ضمَّته المكتبة في عهده، أولى المجموعات المهداة إلى المكتبة، وهي: مجموعة
المخطوطات والوثائق المرحوم الأستاذ إبراهيم بن عبدالعزيز بن طوق، رئيس مجلس إدارة
الغرفة التجارية الصناعية في الرياض -حينها-، وتكمن أهميتها -في تقديري- في دراسة
شخصية مالكها ابن طوق الجَد (إبراهيم بن عبدالرحمن) فالمجموعة تحتوي على كتب في
الفلسفة والمنطق والكيمياء والطب والفلك، فضلًا عن الكتب الشرعية والأدبية. ولعل
أهم ما اشتملته المجموعة من الناحية المعرفية، ورقة كيفية صنعة الأحبار الملونة
لابن طوق نفسه.
كما
انضمت إلى المكتبة في تلك الفترة: مكتبة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع -رحمه
الله- وهو أحد الأعلام الشرعيين ممن خدموا الحركة التعليمية في السعودية وقطر،
وتضم مكتبته ٤٨١ مجلداً، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الوثائق، ومجموعة من الدفاتر
التي كان الشيخ يدون فيها بعض مذكراته.
ومن
المكتبات المميزة التي استجلبها: مكتبة الأستاذ جميل أبو سليمان -رحمه الله- في
مكة المكرمة، وهذه المكتبة تشتمل على ألف مخطوطٍ، من بينها مخطوطات قيمة كديوان
الأحنف العكبري، المنسوخ في القرن السادس الهجري.
أما أشهر
مكتبة حكومية تفخر المكتبة باقتنائها، فهي مكتبة الرياض السعودية، أو ما اسميها
مكتبة آل سعود الوقفية، لكثرة وقفيات الأسرة المالكة فيها، وهذه المكتبة ضمَّت
استنادًا إلى المراسلات التي تمت بين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن
عبدالعزيز -عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض- وسماحة المفتي العام للمملكة الشيخ
عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله-، فتمت الموافقة على نقل مخطوطات المكتبة إلى مكتبة
الملك فهد الوطنية. وتحتوي على مجموعة خطية مهمة تبلغ ۷۹۲ مخطوطًا. وتمتد هذه المخطوطات
تاريخيًا من القرن السادس الهجري حتى القرن الرابع عشر الهجري، ومن أقدم هذه
المخطوطات مخطوط بعنوان: الإرشاد في قواعد العقائد لأبي المعالي عبدالملك الجويني،
مؤرخ عام ٥٦٢هـ
ولم
تقتصر جهود ابن جنيد على المخطوط المحلي والخارجي، بل سعى كذلك إلى اقتناء أندر
المطبوعات الأوروبية القديمة ذات الصلة بالثقافة العربية والإسلامية، ليجعل من
المكتبة مرجعًا متعدد الطبقات: مخطوطًا، ومطبوعًا، ومرآةً لتاريخ التلقي الثقافي
بين الشرق والغرب.
*
* * * * * * *
ومن أجمل
ما قيل في وصف سيرة ابن جنيد خلال عمله في مكتبة الملك فهد الوطنية، ما كتبه صديقه
الدكتور عبدالله الوهيبي -رحمه الله-، الذي قال: "كنتُ أدخل عليه في أول
عهدنا بالمكتبة، فأراه غارقًا بين ركام الوثائق والرسائل والدفاتر، ينسف عنها
الغبار، ويحوطها بعنايته كأنها أصغر أولاده. كبرت المكتبة، وتوسعت أعمالها، ويحيى
يزداد تواضعًا، ويبذل من وقته وشبابه في خدمتها، لا يميِّز نفسه عن أحدٍ من
العاملين فيها".
وغادر
المكتبة دون أن يطلب لنفسه ميزة أو امتيازًا. ولعل أوفى ما يُقال في هذا، ما ذكره
رئيس مجلس أمناء المكتبة، الأستاذ عبدالله بن علي النعيم -رحمه الله-، حين ذكر أنه
رُفعت قائمة بأسماء عددٍ من العاملين في المكتبة لمنحهم قطع أراضٍ في مدينة الرياض
لبناء مساكن، فاعتذر يحيى بن جنيد عن إدراج اسمه، معللًا ذلك بأنه يمتلك منزلاً،
ولا يرى في نفسه استحقاقًا لذلك العطاء.
وقد
أشرنا سابقًا إلى أن مكافآته المستحقة من عمله في المكتبة، تبرع بها لقسم التزويد
عند مغادرته، في لفتةٍ قلَّ أنْ نجد لها نظيرًا؛ رجلٌ أدار ميزانية مؤسسة ثقافية
وطنية، وخرج منها بضمير صافٍ وأثرٍ باقٍ.
كتبت
المكتبة في نشرتها، تأبينًا لوداعه: "بناء على رغبته غادر الدكتور يحيى بن
جنيد المكتبة ليعود إلى الحقل الأكاديمي مواصلًا عطاءه العلمي الذي لم يتوقف عنه
وهو منشغل في تشييد هذا المعلم الثقافي المهم، الذي منحه كل جهده وإمكاناته، وفي
غمرة العمل المتواصل الدؤوب كان ناكرًا لذاته متفانيًا في إثراء المكتبة بمختلف
أوعية المعلومات، وتطوير كوادرها الفنية، وتزويدها بأحدث التقنيات المكتبية".
بهذا،
نكون قد بلغنا ختام المرحلة التي تَمثَّلت في اشتغال يحيى بن جنيد بمكتبة الملك
فهد الوطنية مستشارًا، ومشرفًا على مرحلة البناء، وأمينًا عامًا لها، تلك المرحلة
التي وُضع فيها الأساس الإداري، والتشريعي، والببليوغرافي لمؤسسة وُلدت لتكون
الذاكرة الثقافية للمملكة.
*
* * * * * * *
لم تكن
مغادرة يحيى بن جنيد لمكتبة الملك فهد الوطنية عام ١٤١٦هـ/١٩٩٥م نهايةً لصلته
بالمخطوط، بل بداية لمرحلة أخرى اتسع فيها نطاق اشتغاله فقد أسَّس بعد أشهرٍ من
مغادرته المكتبة، وتحديدًا في عام ١٩٩٦م، مجلة "عالم المخطوطات
والنوادر"، لتكون أول دورية علمية مُحكَّمة متخصصة في المخطوطات على مستوى
المملكة، والأقدم خليجيًّا في حملها لاسم "المخطوطات".
وعلى مدى
أكثر من ربع قرن (١٩٩٦-٢٠٢٢م)، واصلت المجلة صدورها، متنقلةً بين عددٍ من المؤسسات
الثقافية: بدأت من دار ثقيف للنشر، ثم انتقلت إلى مكتبة الملك عبدالعزيز العامة
بالرياض، ثم إلى مركز البحوث والتواصل المعرفي، وانتهت في آخر أعدادها بشراكة مع
مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية، قبل أن يتوقف صدورها مؤقتًا في الفترة
(٢٠٢٣-٢٠٢٥م).
وقد رسَّخت
المجلة حضورها العلمي في عدة ميادين: تحقيقات نصوص، ودراسات نظرية، ومراجعات
نقدية، وفهارس ببليوغرافية، مما رسَّخ مكانتها بوصفها منصة متخصصة تجمع بين
الاشتغال العلمي بالنصوص ومناقشة قضايا المخطوط وتقاليده وأساليبه الحديثة، ونشرت
خلال سنواتها ما يزيد عن ٢٢٠ بحثًا علميًا، تنوَّعت بين تحقيقات ودراسات ومراجعات،
وشارك فيها ما يزيد عن ١٩٠ باحثًا من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي.
وإلى هنا
أتوقف عن متابعة هذه السيرة الباذخة، وقد بلغنا معها منتصف عام ١٩٩٦م. وسأستكمل،
بإذن الله، في مقالة لاحقة ما تبقى من مسيرته، وهي الثلاثون عامًا التي امتدت من
عام ١٩٩٦م إلى نهاية عام ٢٠٢٥م، والتي شغل فيها منصب الأمين العام لمركز الملك
فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية على مدى عقدين، والذي أصبح أكبر مركز -غير حكومي-
في الوطن العربي يحوي على مخطوطات أصلية، بما يناهز ٣٠ ألف عنوان. وفيه أصدر عدة
مجلات ثقافية وعلمية مختصة، وعشرات الكتب المطبوعة، وأول فهرس إلكتروني للتراث
المخطوط، ضم أكثر من نصف مليون عنوان، كان النواة لمشاريع تكشيف المخطوطات كافةً
بعد ذلك.
*
* * * * * * *
وفي
العقد الأخير تقريبًا، أسّس يحيى بن جنيد مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض،
جاعلًا منه منصةً فاعلة في الوصل المعرفي بين العالم العربي وبلاد ما وراء النهر
والصين. ومن خلال هذا المركز، كثّف نشاطه البحثي حول الحضور العربي في آسيا
الوسطى، سواء في إطار الدراسات التاريخية، أو عبر الاشتغال المباشر بالمصادر
التراثية.
وقد
انعكس هذا التوجه في عددٍ من أعماله، منها: كتابه "العرب في آسيا الوسطى:
الوجود الإثني والتجذير الثقافي"، وكتاب "أبو سعد السمعاني وعالمية
الثقافة العربية"، وغيرها.
وبما أن
المقال ينشر بعد إعلان اختياره من معهد المخطوطات العربية -أعرق جهاز ثقافي لخدمة
التراث المخطوط- شخصية العام للبحث التراثي في الوطن العربي لعام ٢٠٢٥م، فمن
المناسب ذكر ما رواه الأديب محمد القشعمي، حين فاز ابن جنيد بجائزة الملك فيصل
العالمية في الدراسات الإسلامية عام ١٩٩٨م، وكان موضوعها عن الدراسات التي تناولت
المكتبات أو صناعة الكتاب عند المسلمين.
يحكي
القشعمي أن ابن جنيد فاز رغم ترشيحه أستاذه عبد الستار الحلوجي، الذي فاز معه
بالجائزة مناصفة.
ويقول:
"كنتُ في أمسية رمضانية بأحد مقاهي الثمامة مع بعض الأصدقاء، وما أن سمعتُ في
أخبار الحادية عشرة مساءً خبرَ إقامة حفل إعلان أسماء الفائزين بالجائزة، حتى
أزمعتُ أن أشد الرحال للبحث عن هذا الإنسان الجميل لتهنئته. واختلف الأصدقاء أين
سأجد ابن جنيد في هذه الساعة المتأخرة، فقلت لهم: سأعرف أين أجده.
ويتابع:
"ذهبت إلى مكتبه المتواضع في مبنى يضم دار ثقيف للنشر والتأليف، ومجلتي (عالم
الكتب) و(عالم المخطوطات والنوادر) اللتين يرأس تحريرهما، ووصلت في حدود منتصف
الليل. رأيت نورًا خافتًا، فطرقت الباب مرارًا حتى خلتني أكاد أخلعه! خرج هلعًا
متسائلًا: ماذا حصل؟ ماذا تريد؟
فقلت:
أريد أن أهنئك بعد إعلان فوزك بالجائزة. فقابل حماسي ببرود لا مثيل له".
ويختم
القشعمي هذه الصورة النبيلة بقوله: "هكذا يُثبت أمثال هؤلاء الرجال صدقهم
وتواضعهم. وما أن حضر حفل تسليم الجوائز، حتى أعلن عن تنازله عن الجائزة لصالح دار
الأطفال المعوقين بالمدينة المنورة".
وعند هذا
الحد، يمكن القول إن سيرة يحيى بن جنيد مع المخطوط العربي كانت مسارًا علميًّا
امتدّ على مدى ثمانين عامًا من عمره المبارك، قدّم خلالها ما يزيد على ستين عملًا
علميًّا متّصلًا بالمخطوط، تنوّعت بين تحقيقات نصوص، ودراسات وصفية، وفهارس مفصلة،
ومقالات تأصيلية، ومداخلات علمية، نُشرت في دوريات محكمة، ومجلات ثقافية، وكتب
مستقلة، ومحاضرات متخصصة.
وقد جاء
هذا الاشتغال من مواقع متعددة؛ فمرّةً من موقع الطالب والباحث، ومرّةً من موقع
الأستاذ الجامعي الذي يدرّس علم المكتبات والمعلومات، ومرّةً من موقع أمين مكتبة
وطنية يخطّط لبنية الحفظ والمعالجة، ومرّةً من موقع أمين مركز بحثي يربط التراث
بالمجتمع والسياسات الثقافية.
كان يوم
الأحد، الرابع عشر من مارس ٢٠٢٤، نهارًا ثقيلًا كعادته في مطالع الأسابيع، لكنه في
ساعات ضُحاه حمل لي ما لم أكن أتوقَّعه. لم يكن يومًا عاديًا؛ ففيه تمَّ أول لقاءٍ
لي مع يحيى بن جنيد، الرجل الذي عرفتُ اسمه منذ أكثر من عقدين، وقرأتُ له في
المطبوعات النادرة والمخطوطات، دون أن يجمعني به لقاءٌ مباشر، رغم وجود أصدقاء
مشتركين بيننا.
كان لديَّ
في ذلك اليوم موعدٌ مرتَّب مع الأستاذ مساعد العتيبي في مركز البحوث والتواصل
المعرفي، وهو من خاصَّة الدكتور ابن جنيد. استقبلني الأستاذ مساعد بأريحيته
المعهودة، وتحدَّثنا طويلًا في قضايا الفلسفة والثقافة والفكر المعاصر، وشرَّقنا
وغرَّبنا كثيرًا، ثم التفت إليَّ قائلًا: ما رأيك أن تُسلِّم على الدكتور يحيى بن
جنيد ؟
لم يكن
هذا السلام مرتَّبًا، ولا كنت أظن أن وقت الدكتور سيُتاح للجلوس معه، وكنت أعلم أن
تواضعه عالٍ، لكنني مع ذلك لم أكن أتخيَّل أن أُدعى له بهذه البساطة، لكنَّها
الأقدار.
دخلتُ
عليه، فوجدت الدكتور يحيى بن جنيد كما حُكِيَ لي: رجلٌ هادئ القَسَمات، تملأ وجهه
ملامح الجدّ والسكينة، نظَّارةٌ بسيطة، شعرٌ أبيض مبعثر بلطف على الجبين.
يُحيط به
مكتبٌ تغمره أوراقٌ ومسودَّات يُصحِّحها، ومجلداتٌ متراكمة تنتظر دورها.
عرَّفني
الأستاذ مساعد، وبدأ بيننا حديثٌ رائقٌ عن فلاسفة القرن الرابع الهجري، وعصر
الازدهار الحضاري والتنوير، ثم انتقل الحديث عن كتاب الدكتور عن "المجتمع
العربي من سيادة العلم إلى وحل الخرافة"، ثم تحدثنا عن نوادر المخطوطات
الفلسفية، ووضع المخطوطات في المملكة.
كان
اللقاء قصيرًا، لكنّه عميق الأثر. لقد وجد الشيخ في التلميذ بعض صوته، ووجد
التلميذ في الشيخ كل ما كان يبحث عنه.
سيبقى
أثرُ هذا اللقاء أثرًا لا يُنسى، والفضل في تيسيره بعد الله يعود إلى الأستاذ
مساعد العتيبي، الذي بكرمه وهدوئه فتح لي هذا الباب، وجعل تلك اللحظة ممكنة، دون
ترتيبٍ أو طلبٍ أو إحراج. فله خالص شكري وتقديري.
في
الختام، قد لا تكون هذه الصفحات سوى محاولة أولى للاقتراب من ظِل رجلٍ ظَلّ يشتغل
بالكتاب منذ طفولته، مخطوطِه ومطبوعِه، عربيِّه وأوروبيِّه، بجدٍ واجتهاد طوال
سبعة عقود.
لقد
أُتيح لي أن أتتبع بعض خيوط هذه السيرة، من أول مقالةٍ نُشرت في مجلة قريش، إلى
آخر عدد يعتزم نشره من مجلة عالم المخطوطات والنوادر بعد توقفها، مرورًا بمكتبةٍ
وطنية، ومركزٍ بحثي، وفهارس كتبت على الآلة الكاتبة، وتحقيقاتٍ تراثية، ومواقف
أخلاقية تصدر عن نُبل وكمال إنساني.
وما بين
يحيى بن ماسويه ويحيى بن عدي ويحيى بن جنيد خيطٌ من الوفاء للكتاب، وخيطٌ ثانٍ لا يُرى، هو
ذاك الذي يربط السيرة بالمعنى، ويمنح "الاسم" بعدًا يتجاوز حروفه.
رأيت في
الشيخ بعض ملامح من سبقوه، وفي صمته صدى لمن خدموا الكتاب قبل أن يخدمهم، وفي
سيرته امتدادًا يربط الورّاق، والمفهرِس، والمربّي، والباحث، والمحرّر، والمُتخلّق
بخلق العلم.
وجدت في هذا اليحيى استمرارًا هادئًا لصوتٍ
قديم، عرفناه في الورّاقين، وسمعناه في الظاهرية، ورأيناه في مكتبات بيروت
والقاهرة ودمشق، حتى عاد وظهر في الرياض.
لا أدّعي
أني أحطتُ بكل شيء، ولا أردت أن أكون شاهدًا على سيرة كاملة، لكنني سجّلت ما
استطعت، كما يرى التلميذ الصغير بعض علم أستاذه، فيظن الإحاطة به عند استظهار
دروسه.
لا أعرف
إن كنت أنصفتُه، أو أضفت شيئًا زائدًا لمن عرفه، لكنني كتبت كما شعرت، ووقفت حيث
وجدت المعنى أسبق من العبارة.
ولعل في هذه الكتابة من الراحة ما ليس في غيرها؛ لأنها ليست تأبينًا، بل اعتراف بجهود رجلٍ على سَمْت المتقدمين كان هنا… وما يزال.
تعليقات
إرسال تعليق