شريط المقالات

المكتبات المنكوبة في العراق: أكبر نهب للتراث الثقافي في القرن الحادي والعشرين

المكتبات المنكوبة في العراق: أكبر نهب للتراث الثقافي في القرن الحادي والعشرين

المكتبات المنكوبة في العراق: أكبر نهب للتراث الثقافي في القرن الحادي والعشرين

كانت بغداد عصر التدوين في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وفي لحظات ازدهارها التالية، تعجّ بالمكتبات العامة والخاصة، فمنذ أن أنشأ الرشيد "بيت الحكمة"، لم تلبث المدينة أن تحوّلت إلى موئلٍ للمكتبات المتخصصة في علوم الفلسفة والطب والرياضيات واللغة، إلى جانب التراث الشرعي في الحديث والعقيدة والفقه، فكان أن نشأت بها خزائن كبرى، أشهرها: خزانة الكِندي، وخزانة أبناء موسى بن شاكر، وخزائن دار العلم في البصرة والموصل، فضلًا عن مكتبات الوزراء كالزيّات، والأطباء، والحكام المحليين كالبويهيين.

وفي محيط هذه الخزائن، ازدهر ما كان يُعرف بـ سوق الورّاقين، وهو سوق الورق والكتب والأحبار والتجليد، والذي صار أحد أعمدة الحياة الثقافية في بغداد، حيث تُنسخ الكتب وتُعار وتُباع وتُهدى، وتُقرأ على الأشياخ في حلقات العلم. وقد أورد النديم وابن الجوزي والصفدي والذهبي أخبار هذا السوق، بوصفه مؤسسة ثقافية تؤرخ لما كان يقرأه الناس في كل مرحلة زمنية، وقد احصى الورّاق النديم المتوفى عام ٣٨٤هـ نحو ٨٣٦٠ عنوانًا كان جزء كبير منها ينسخ في بغداد. وللتدليل أكثر على أنّ بغداد كانت مهوى أفئدة العلماء والأدباء والأطباء والمهندسين والفلكيين والموسيقيين وغيرهم، أن ثابت بن سنان أحصى أكثر من ألف طبيب في دخلوا لامتحان الأطباء في بغداد عام ٣١٩هـ، وأن المحدّث الخطيب البغدادي المتوفى عام ٤٦٣هـ، أحصى نحو ٧٨٣١ عالمًا أو طالب علم سكنوا أو مروا على بغداد، ومعظمهم من أهل العلوم الشرعية وتحديدًا الحديث، فلو ضم إليهم غيرهم ممن ذكرنا لتجاوز العدد -في تقديري- ثلاثين ألف عالمًا وطالب علم، يحجون إلى بغداد طلبًا للمعارف.

لكن ما جمعته بغداد في خمسة قرون، فقدت كثيرًا منه في الاجتياح المغولي عام ٦٥٦هـ، ما أدّى إلى انهيار المنظومة المعرفية العربية وتراجعها؛ بإحراق المكتبات ونهبها وسفرها للأمصار. ويمكن القول بكل أسف إن العرب خسروا تراثهم الثقافي والعقلي والعلمي بسبب هذه النكبة.

وبعد مرور أكثر من سبعة قرون، وقيام الاتحادات المكتبية العالمية، ونشوء منظمات الثقافة الدولية، تكررت المأساة الثقافية العراقية في مشهد أكثر حداثة، ولكن لا يقل وحشية.

فمع الغزو الأميركي الغاشم للعراق عام ٢٠٠٣م، تعرّضت المكتبات الحديثة في بغداد إلى تدمير واسع النطاق. كانت النيران هذه المرة لا تأتي من خيول المغول، بل من دبابات الحاضر وصمت العالم، وحدث أن تكررت نكبة التراث العراقي، لا في "زمن الظلام" بتعبير الغزاة، بل في عصر الرقمنة والعولمة! لم يكن الأمر حوادث عرضية أو أهدافًا جانبية، بل كانت ما يشبه "الاجتثاث الثقافي" المُمنهج لتراث بلاد الرافدين، حيث تحوّلت المكتبات من رموز سيادة معرفية إلى أهداف عسكرية، ومن دورٍ لحفظ الوعي إلى رمادٍ يطير في أجواء بغداد والموصل.

وقد رصدت محاضرة "خزائن الكتب والمخطوطات - واقع المخطوطات في العراق بين الأمس واليوم" التي قدّمها أ.د. غازي حميد موسى في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالشراكة مع مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض، وشرفتُ بإدارتها، أبرز محطات هذا الفقد الثقافي الممتد، مركزًا على المكتبات البغدادية التي تعرّضت للنهب والحرق بين عامي ٢٠٠٣م و٢٠١٦م، وهي ما نصفه بأكبر نهب للتراث الثقافي في القرن الحادي والعشرين.

١/ مكتبة المتحف الوطني العراقي.

تُعدّ من أنفس المكتبات في العراق الحديث، ضمّت بين رفوفها ما يزيد على ٤٠٠٠ مخطوط، أغلبها فريد ونادر، وبعضها بخط مؤلفيها مثل كتاب "المجمل في اللغة" لابن فارس [ت٣٩٥هـ].

تعرّضت أثناء الاحتلال لكسر أبوابها وسرق محتوياتها، بما في ذلك الكنوز الأثرية والمخطوطات العربية.

ولم تكن السرقة عملاً فرديًا عشوائيًا، بل وقعت في ظل تهاون متعمّد من القوات الغازية التي تركت أبواب المتحف مشرعة، وسمحت عمليًا بتحويله إلى سوقٍ مفتوح للآثار المنهوبة.

٢/ مكتبة المجمع العلمي العراقي.

تُعد مكتبة المجمع العلمي العراقي المؤسس عام ١٩٤٧م من أبرز خزائن بغداد الحديثة، وكانت تضم أكثر من ٥٨ ألف كتاب، معظمها في مجالات اهتمامها اللغوي.

في عام ١٩٧٩م، أُنجز جرد علمي مفصل لمحتوياتها، وبلغ عدد المخطوطات ٧٢٨ مخطوط.

لم تسلم المكتبة من النهب الذي طال مؤسسات العراق الثقافية بعد الغزو، إذ كسرت القوات الغازية أبواب المجمع، وتُركت ساحةً مفتوحة للسرقة لما يقارب ٨٠٪ من محتوياتها.

٣/ دار الكتب والوثائق الوطنية في بغداد.

تُعدّ المكتبة الوطنية للجمهورية العراقية، والمركز الرسمي للأرشيف العراقي. تأسست عام ١٩٢٠م، وكانت من أوائل المكتبات الوطنية في العالم العربي، واعتمدت كمركز للإيداع القانوني للكتب والمطبوعات الصادرة في العراق عام ١٩٧٠م.

وتمكنت خلال عقود من جمع أرشيف ضخم من الوثائق والمخطوطات والكتب النادرة والدوريات، فغدت تمثل ذاكرة العراق الحديثة منذ العهد الملكي وحتى مرحلة ما بعد الاستقلال.

لكن هذه الذاكرة المؤسسية لم تكن بمنأى عن النكبة، فتعرّضت لدمار جسيم بعد الاحتلال الأميركي، إذ التهمت النيران أجزاء واسعة من الأرشيف، وسُرقت مئات الآلاف من الكتب والوثائق والمخطوطات التي كانت تُعدّ من نفائس التراث العراقي الحديث.

وتم تقدير الفقد في إحدى الدراسات ب٢٥٪؜ من الكتب المودعة، ٦٠٪؜ من الوثائق العثمانية والهاشمية، ٢٦١٨ دورية، و٤٤١٢ مخطوطة.

٤/ المركز القومي للمخطوطات (دار صدام للمخطوطات سابقًا).

تأسس عام ١٩٨٩م في دار الوزير توفيق السويدي، وكان يضم أرشيفًا هائلًا قُدّر بنحو ٦٠ ألف مخطوطة، كثير منها يعود إلى عصور إسلامية مبكرة.

في أعقاب الغزو العراقي، تعرّض المركز لدمار واسع النطاق، إذ اقتُحمت خزائنه، وسُرقت آلاف المخطوطات، بعضها لم يكن له نظير، وجرت محاولات لاستعادة المفقودات دون الطموح.

٥/ مكتبة جامعة الموصل.

كانت مكتبة جامعة الموصل من أغنى المكتبات الجامعية في العراق، واحتوت على مجموعة كبيرة من المخطوطات النادرة والمؤلفات المرجعية. صمدت في وجه سنوات الحصار بعد عام ٢٠٠٣م، وكانت مقرًّا مهمًا للباحثين في دراساتهم العليا.

لكن هذا الصمود لم يدم طويلًا. فمع سقوط مدينة الموصل، تعرّضت المكتبة لحريق متعمَّد أتى على معظم محتوياتها. وقد وثّقت لجنة أوروبية الخسائر بنحو ٨٩٠ ألف كتاب ومخطوط، مما جعل الكارثة واحدة من أسوأ موجات الإتلاف الثقافي التي شهدتها مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي الحديث.

ومن الطرائف والمبكيات الشخصية ما يحكيه المحاضر عن سرقة أحد اللصوص لمكتبته المنزلية، إذ عمد لسرقة "موسوعة حضارة العراق" والتي تقع في ٢٥ مجلدًا، وكأن اللص رأى فيها مغنمًا ثمينًا للبيع، أو أراد التوبة النصوح بالقراءة في تاريخ العراق الحضاري!

أقول، رغم كل هذا الأسى، فالعراق يقوم من تحت الركام، وبغداد تنتفض ضد لصوص الثقافة، وتستعيد دورها الحضاري بترشيحها كعاصمة للثقافة الإسلامية لعام ٢٠٢٦م، كما شهدت في عام ٢٠٢٣م رعاية "يوم المخطوط العربي" تحت شعار "أخلاقيات العلم وآداب الطلب" وذلك ما يذكرنا بعنوان كتاب للخطيب البغدادي قبل ألف عام من هذه الاحتفالية "الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع".

في الختام، نشكر لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية استضافة المحاضرة القيمة، وإصداره الكثير من الكتب المختصة التي تتبع سيرة الكتاب والمكتبات في الحضارة العربية، ككتاب "مكتبات المساجد" و"الوقف وبنية المكتبة العربية"، وحفظه لعدد من المخطوطات البغدادية المؤرخة قبل الغزو المغولي لبغداد عام ٦٥٦هـ وبعده، ما يؤكد استمرار الحياة العلمية في بغداد -وإن بشكل خافت- وفاعليتها الحضارية رغم العدوان الهمجي.


المكتبات المنكوبة في العراق: أكبر نهب للتراث الثقافي في القرن الحادي والعشرين


الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال