شريط المقالات

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر 

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر

في زيارتي الأخيرة إلى القاهرة، وجدت نفسي في قلب استراتيجية ثقافية مميزة تستحق التأمل والرصد والمتابعة. إذ بدا لي أن ثمّة حراكًا ثقافيًا واسعًا تشهده البلاد تحت عنوان "مصر تتحدث عن نفسها"، وهي مبادرة أطلقتها وزارة الثقافة المصرية مطلع شهر الماضي تقوم على تخصيص كل شهر لموضوع ثقافي مركزي تتوزع حوله الفعاليات في مختلف المحافظات. ولشهر يوليو كان العنوان: "تراثك ميراثك".

سأتوقف قليلًا عند عبقرية اختيار عنوان المبادرة الثقافية الكبرى، وهو "مصر تتحدث عن نفسها"، المستقى من ذاكرة أدبية وطنية بالغة الرمزية؛ فهو عنوان قصيدة خالدة لشاعر النيل الكبير حافظ إبراهيم، عام ١٩٢٦م، قبل وفاته بست سنوات فقط، وجعل فيها مصر ذاتها المتكلمة، والشاهدة، والشاكية، والمفاخرة بتاريخها، جعل مصر تحاكم التاريخ، فـ "مصر جت قبل التاريخ، والتاريخ جاء بعدها".

وقد رأى فيها بعض النقّاد لاحقًا، قصيدةً تصلح أن تكون نشيدًا وطنيًا لما تحمله من قوة في البناء، وصدق في التعبير، وشموخ في النبرة. ولعل أعظم تكريم شعبي لهذه القصيدة أنها اختيرت في عام ١٩٥١م لتُغنّى بصوت السيدة أم كلثوم، بتلحين رياض السنباطي، في مناسبة وطنية ارتبطت بإحياء روح المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي. وتم اختصار القصيدة من ٥٧ بيتًا إلى ١٢ بيتًا، بالتعاون مع الشاعر أحمد رامي، ليُنتقى منها ما يلائم التلحين والإنشاد، ثم أعادت أم كلثوم أداءها في مناسبات وطنية لاحقة بعد أحداث ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، فترسّخ عنوان القصيدة في وجدان الأجيال.

وأرى أن بعض أبياتها تستحق أن تكتب على مداخل ديوان وفروع وزارة الثقافة، وقصور الفنون، والمكتبات العامة، لما تحمله من وعي بالذات الحضارية، واستنهاض للهمم. من بين تلك الأبيات التي لا تزال تضيء حتى اليوم، قول مصر عن نفسها:

وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعًا
كيفَ أَبني قَواعِدَ المَجدِ وَحدي
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَهرِ
كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّي
إِنَّ مَجدي في الأولَياتِ عَريقٌ
مَن لَهُ مِثلَ أولَياتي وَمَجدي
وَاِرفَعوا دَولَتي عَلى العِلمِ وَالأَخلاقِ
فَالعِلمُ وَحدَهُ لَيسَ يُجدي
إن العودة لهذا النص اليوم، بعد زهاء قرن من كتابته، وفي سياق المبادرة الثقافية الجديدة، هو عودة ذكية إلى لحظة شعرية كانت فيها مصر تُعيد تعريف نفسها بالكلمة والفعل والمقاومة، كما تفعل اليوم بالفعل والصورة والمعرض والمشاركة الشعبية.

وبوصفي زائرًا ومتابعًا للشأن الثقافي العربي، لا يسعني إلا أن أقدّر الجهد المبذول في هذه المبادرة من حيث اتساع رقعتها الجغرافية وتنوعها الموضوعي. ولأنها ليست مجرد عرض للتراث بالمعنى التقليدي، بل محاولة -أياً كانت درجة اكتمالها- لإعادة توجيه البوصلة الثقافية نحو ما يمكن تسميته بـ"الذاكرة الحيّة" والملموسة للناس، سواء في تراثهم، أو حرفهم، أو حكاياهم، أو طرائق تعبيرهم.

شدّني في عنوان شهر يوليو: "تراثك ميراثك"، كلماته القليلة التي تقول الكثير: فهي تربط بين ما هو جماعي (التراث) وما هو شخصي (ميراثك). لكنها -في الوقت نفسه- تضع المسؤولية على المتلقي، لا على الدولة وحدها. وكأن الرسالة هي: التراث الذي نحفظه، هو لك لو تلقيته ورعيته.

وقد لمست ذلك شخصيًا وأنا أتنقل بين معرضين في دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، الأول في قاعة الموسيقى، وتعذر عليَّ كتابة تقرير ثقافي بسبب عدم السماح بالتصوير وفق الإجراءات المتبعة، مع كرم شديد ولطف لا يوصف من مديرة القاعة، ويستحق العمل المبذول في هذه القاعة الإشادة والإطراء والتوثيق، فهي تحتفظ بالذاكرة الموسيقية لمصر، بل للعرب، منذ مطلع القرن العشرين.


والمعرض الثاني لصور المخطوطات والبرديات واللوحات الخطية التي قلّما تُتاح رؤيتها لجمهور واسع.

بدأت جولتنا في المعرض الفني حيث اطلعت على عدد من اللوحات المعروضة التي تمثل نماذج مختارة من مقتنيات الدار. وقد تميّزت هذه الجولة بالتنوّع البصري والتاريخي، واشتملت على لوحات لجماليات الخط العربي، والمنمنمات الفارسية، والزخارف المصحفية، إلى جانب لوحات مستنسخة من البرديات والمخطوطات الطبية.

وللإحاطة، فدار الكتب تحتفظ بمجموعة ثمينة تضم نحو ٧٥٠ لوحة خطية، معظمها تعود إلى المدرسة الإيرانية والتركية، ويغلب عليها الطابع السلطاني، وهو ما يُضفي عليها قيمة إضافية من حيث المنشأ والسياق الفني. وقد تشكّلت هذه المجموعة من مقتنيات خاصة أُهديت أو اشتُريت، ومن أبرزها مجموعة أحمد طلعت بك [ت١٩٢٧م]، الذي كان قد اقتنى عددًا من اللوحات من تركة السلطان عبد الحميد الثاني، ومن بعض أمراء الدولة العثمانية، ثم انتقلت هذه المجموعة إلى دار الكتب بعد وفاته. كما تحتفظ الدار أيضًا بـ٧٢ مخطوطة فارسية بها منمنمات (رسومات تصويرية)، من أصل نحو ٢٥٠٠ مخطوطة فارسية في مجموعتها الأصلية.

في المعرض المذكور في بهو دار الكتب، عرضت ١٩ لوحة مصوّرة -وليست أصولًا- لمنمنات ورسومات مخطوطات، ولوحات خطية، وبرديات، وغيرها. تمتاز كل لوحة بخصائص فنية وتاريخية متفردة يطول شرحها، وسأعرض فيما يلي عددًا من النماذج التي استوقفتني خلال الجولة:

اللوحة الأولى:

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر

للخطاط محمد عبدالعزيز الرفاعي عام ١٣٤٤هـ، واشتملت على ٢٦ خطًا متنوعًا، من الكوفي القديم إلى الرقعة، مرورًا بخط الثلث والنسخ والديواني.

اللوحة الثانية:

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر

كتبت بالديواني الجلي، وخطّها الخطاط فؤاد عام ١٣٢٣هـ.

اللوحة الثالثة:

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر

آية في الحسن والجمال، اشتملت على أحاديث نبوية دون توقيع الخطاط.

اللوحة الرابعة:

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر  Copied from: المشاركة: تعديل - <https://www.blogger.com/u/1/blog/post/edit/3621529492709890264/5796639795473520662>

منمنمة من مخطوطة فارسية تعود لزمن مؤلفها عبدالرحمن الجامي [ت٨٩٨هـ] بعنوان "يوسف وزليخا"، تجسد المعراج، والفرس يجيزون رسم الذات النبوية، مع وضع هالة من النور على الوجه الشريف.

اللوحة الخامسة:

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر  Copied from: المشاركة: تعديل - <https://www.blogger.com/u/1/blog/post/edit/3621529492709890264/5796639795473520662>

لوحة مرسومة لكمال الدين بهزاد (رفائيل الشرق) المتوفى نحو عام ٩٤١هـ، وهي تصور مسجد أو خانقاه، وهي في غاية الحسن والجمال في تصوير طرائق التعليم في الحضارة الإسلامية.

اللوحة السادسة:

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر  Copied from: المشاركة: تعديل - <https://www.blogger.com/u/1/blog/post/edit/3621529492709890264/5796639795473520662>

نماذج ووحدات زخرفية بمصحف مغربي كُتب عام ١١٢٤هـ، تملكه محمد بك أبو الدهب [ت١١٨٩هـ]، للدلالة على نهاية أرباع وأنصاف الأحزاب.

إلى جانب مجموعة واسعة من اللوحات من المخطوطات الطبية، والبرديات التاريخية.


في الختام،

لا يسعني، وأنا أطوي هذه السطور، إلا أن أتوجّه بالشكر لوزارة الثقافة المصرية على تنظيم هذا المعرض الفني، الذي فتح نافذة مشرقة على محفوظات دار الكتب والوثائق القومية، وذلك تحت رعاية معالي الوزير الدكتور أحمد هنو، الذي جاءت هذه المبادرة في عهده امتدادًا لحراك ثقافي فاعل يستحق الإشادة.

كما أتقدّم بخالص الامتنان لسعادة الأستاذ الدكتور أسامة طلعت، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، على هذا الجهد المؤسسي الذي حافظ على مكانة الدار بوصفها أشمخ منارة للذاكرة الثقافية في الوطن العربي.

والشكر موصول كذلك إلى الأستاذ شريف عادل صالح، رئيس الإدارة المركزية للشؤون المالية والإدارية، الذي تفضل مشكورًا باستقبالي وفتح باب الحوار -رغم ضيق الوقت-، فتبادلنا أطراف الحديث حول ما تختزنه هذه المؤسسة من إرث، وما تنتظره من آفاق.

وتعذر علي مقابلة الدكتور مينا رمزي، رئيس الإدارة المركزية لدار الكتب المصرية، والذي نثمن الجهد الذي يقوده في إدارة واحدة من أغنى مؤسسات التراث في الوطن العربي، وندعو له بالتوفيق والسداد، فالآمال معلّقة على أمثاله.

ولا يمكنني أن أغفل الدور النبيل للأستاذ محمد زينهم، مدير عام البرديات والمخطوطات والمسكوكات، الذي طالما غمرني بكرمه وسخائه وتواضعه، وخصّني -كما يخصّ سائر الباحثين- بعناية معرفية حقيقية، ولطالما أدهشني بأسلوبه المتفاني في خدمة الجميع، وحرصه على أن تكون دار الكتب بيتًا مفتوحًا لأهل البحث والاهتمام.

أما الصديق العزيز الدكتور حسن حسان، خبير المخطوطات التركية والفارسية، فقد كان رفيقي في هذه الجولة؛ وكانت إشارته الحاذقة، وملاحظاته الدقيقة، سببًا في أن أرى ما وراء اللوحات، وأن أكتب هذا التقرير الثقافي بكل حب ورغبة وتفانٍ.

"تراثك ميراثك": سلسلة فعاليات ثقافية تعيد التراث والفنون إلى دائرة التفاعل الشعبي في مصر

الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال