قبل
أكثر من مئة عام من تأسيس المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) في
٢٥ يوليو ١٩٧٠م، كان صوتٌ نهضوي منفرد يشقّ طريقه في ليلٍ عربيٍ طويل. ذلك هو إبراهيم
بن ناصيف اليازجي (١٨٤٧-١٩٠٦م)، الأديب والمترجم والشاعر اللبناني الذي حمل
همَّ الأمة على قلمه ولسانه، فأطلق واحدة من أبلغ صرخات التحرر في تاريخ الخطاب
العربي الحديث، مخاطبًا قومه في فبراير ١٨٦٨م:
تَنَبَهوا وَاستَفيقوا أَيُّها العَرَب،
فَقَد طَمى الخَطبُ حَتّى غاصَتِ الرُّكَبُ!فيمَ التَعلُّلُ بالآمالِ تَخدَعُكُم،
وَأَنتُمُ بَينَ راحاتِ الفَنا سلُبُ!فَشَمِّروا وَاِنهَضوا لِلأَمرِ وَاِبتَدِروا،
مِن دَهرِكم فُرصَةً ضَنَّت بِها الحِقَبُبِاللَّهِ يا قَومَنا هُبُّوا لِشأنِكُمُ،
فَكَم تُناديكُمُ الأَشعارُ وَالخَطبُفَيا لِقَومي وَما قَومي سِوى عَرَبٌ،
وَلَن يُضَيَّعَ فيهُم ذَلِكَ النَسَبُ
لم
تكن صرخته مجازًا شعريًا عابرًا، بل كانت وثيقة وعيٍ مبكرة ترى في العرب أمة تملك
مفاتيح الاستعادة، لكنها تُحجم عن الحركة، وتؤثر التواكل على الاجتهاد.
ولعل
أبياته في قصيدته الأخرى، تعكس طموحه بأن تستعيد الأمّة ذاكرتها الثقافية الفاعلة:
رِوايَةٌ قَد رَوَت عَن أُمَّةِ العَرَبِ،
ما لَيسَ يُنسى عَلى الأَيّام وَالحِقَبِمَآثِرٌ في سجلِّ المَجدِ قَد كتَبَت،
لَو أَنصفَتْ خَطَّها الرَّاوونَ بِالذَّهَبكَم غَصَّ نادٍ بِهِم قَدَمًا وَكَم عَمَرَت،
آثارَهُم ناديًا في العُجمِ وَالعَرَبِهُم الرِّجالُ رِجالُ الفَخرِ ذِكرهمُ،
باقٍ عَلى الدَّهرِ في الأَفواهِ وَالكُتُبِ
لم
يكتفِ اليازجي بالنداء الشعري، بل اختار أن يُجسِّد مشروعه النهضوي -استمرارًا
لمسيرة والده- في اللغة والمعرفة، فأنشأ مع رفاقه مجلات كُبرى تركت أثرًا بالغًا
في الثقافة والعلوم العربية، مثل "الطبيب" و"البيان"
و"الضياء"، وأسهم في بري مصطلحاتها، وتهذيب مفرداتها، وسكِّ
مصطلحات في ميادين الفلسفة، والطب، والكيمياء، "فظهر اقتداره على الإنشاء
العصري مما لم يعهد الناس مثله في المرحوم أبيه"، في وقت كانت العربية تبحث
عمن يجددها للعيش في عصر الحداثة.
ولم
يكن الشيخ إبراهيم وحده في هذا المشهد؛ فقد خرج من بيت آل اليازجي
جيلٌ من الروّاد الذين أعادوا رسم الخريطة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر،
فوالده الشيخ ناصيف اليازجي، أحد مؤسسي النهضة اللغوية في بلاد الشام، رفقة
صاحبه المعلم بطرس البستاني وابنه سليم.
أما
شقيقه خليل اليازجي، فواصل مسيرة النشر والتعليم، وأسهم في طباعة الكتب
المدرسية وترسيخ مفاهيم العربية الحديثة. وقد سبقهم في الرحيل أخوهم حبيب
اليازجي، الذي توفي في شرخ شبابه، وكان مترجمًا عن الفرنسية وأديبًا شهيرًا.
أما
شقيقتهم وردة اليازجي، فكانت آخر الراحلين من الأسرة عام ١٩٢٤م، ناثرة
ورودها في ديوانها "حديقة الورد"، ما استرعى كتابة تلميذها مي
زيادة عنها: "وردة فتحت لنا الطريق، فبقي علينا أن نستكشف طبيعة المرأة
الشرقيّة لنسجّلها في الوجود".
لقد
كانت أسرة اليازجي بحقّ أشبه بمجمعٍ لغوي قبل وجود المجامع، وأكاديمية
ثقافية قبل إنشاء الأكاديميات، ولهذا فإن استحضار صرخة الشيخ إبراهيم اليازجي
اليوم، في الذكرى الخامسة والخمسين لتأسيس الألكسو، ليس حنينًا ماضويًا،
وأنعِم به من حنين لو قصد، بل سؤالٌ مشروعٌ: هل تحوَّلت تلك الصرخة النهضوية
الفردية إلى برنامج عمل ثقافي للعرب؟ وهل كانت الألكسو استجابة مؤسسية لاحقةً
لنداء الأدباء والمثقفين؟
على
تخوم القرن العشرين، انتشرت في العواصم العربية مجلات ومطبوعات لعبت دورًا محوريًا
في تعميم الوعي الثقافي الحديث. فكانت مجلة "الهلال"،
التي أسسها جرجي زيدان عام ١٨٩٢م في القاهرة، من أبرز المنابر التي جمعت
بين التاريخ واللغة والآداب. سبقها في الظهور مجلة "المقتطف"
لمنشئيها يعقوب صروف وفارس نمر عام ١٨٧٦م، وقدَّمت المعارف العلمية بلغة
عربية مبسطة، ممهدة لتحديث المفاهيم العلمية. ثم جاءت مجلة "الرسالة"
التي أصدرها الأديب أحمد حسن الزيات عام ١٩٣٣م، لتكون صوت النخبة الأدبية
والفكرية في ثلاثينات القرن العشرين، ونشرت لكبار الكتّاب أمثال طه حسين
والعقاد والرافعي والزيات نفسه، وقلة قليلة نستقبح قلمهم ونبغض فكرهم.
كما
ظهرت مجلة "الثقافة" التي حررها أحمد أمين بِك
وكانت لسان حال الجامعة المصرية، ومجلة لـ"الاجتماع والآداب والعلوم
والفنون"، فضلًا عن جريدة "السفور" التي أسفرت عن
الصراعات الفكرية بين تيار التجديد الاجتماعي والأدبي الصاعد، والذي كان يكتب
بأسماء مستعارة، وبين التيار المحافظ. وكان وراء تأسيسها ثُلة من الأدباء، أشهرهم محمد
حسين هيكل، والذي لم يؤثر ذكر اسمه حكمة أو جبنًا.
كانت
هذه المجلات أشبه بـ"هيئات ثقافية متنقلة"، تُصاغ عبرها مفاهيم اللغة
والهوية والفكر، في غياب المؤسسات الرسمية. ولم يذهب هذا الزخم سُدى؛ إذ مهد
الطريق نحو لحظة فارقة في التاريخ العربي المعاصر، وهي لحظة تأسيس "جامعة
الدول العربية" في مارس ١٩٤٥م، التي تضمن ميثاقها تأليف "اللجنة
الثقافية"، وشهدت دورتها الأولى إقرار مشروع "المعاهدة الثقافية"
لينتقل العرب من جهود الأفراد والهيئات الأدبية إلى العمل الثقافي المؤسسي.
باشرت
"اللجنة الثقافية" عملها في أوائل ١٩٤٦م، وتولى رئاستها القانوني الشهير
د. عبدالرزّاق السنهوري باشا، وكان يتمنى العمل في مشروع عربي جامع، كما
سطر ذلك في يومياته لعام ١٩٤٤م. ورأت اللجنة من الضروري تكوين هيئتين لإعداد
الأبحاث اللازمة للجنة الثقافية، هما:
المكتب
الدائم للجنة الثقافية. ويتألف من مندوبين عن الدول العربية.
والإدارة
الثقافية. وتتكون من موظفين متفرغين للعمل في
الإدارة، وتولى رئاستها الأديب الأستاذ أحمد أمين، وأشار إلى ذلك في آخر مذكراته
"حياتي".
وباشرت
"الإدارة الثقافية" منذ تأسيسها، وحتى عام ۱۹۷۰م الأعمال التالية:
أولًا:
تأسيس معهد المخطوطات العربية (١٩٤٦).
ثانيًا:
إنشاء متحف الثقافة العربية (١٩٤٩).
ثالثًا:
إنشاء معهد البحوث والدراسات العربية (١٩٥٣).
رابعًا:
عقد مؤتمرات الثقافة العربية (١٩٤٧-١٩٦٩).
خامسًا:
عقد مؤتمرات الآثار العربية (١٩٤٧-١٩٧١).
سادسًا:
تنظيم شؤون التأليف والترجمة في البلدان العربية.
بالإضافة
إلى الإسهام في إحياء التراث الفكري والفني العربي، ووضع التشريعات اللازمة لحماية
الملكية الأدبية، وإقامة المهرجانات الثقافية كالاحتفال الألفي لذكرى ابن سينا
(١٩٥٢م).
ثم
جاءت لحظة مفصلية أخرى، بإصدار وزراء المعارف العرب ببغداد في فبراير ١٩٦٤م
"ميثاق الوحدة الثقافية العربية". والذي تضمن في مادته الثالثة الإعلان
عن إنشاء "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" لتنضوي تحتها عدة
مؤسسات ثقافية كأذرع خارجية.
وفي
يوم ٢٥ يوليو ١٩٧٠م، أُعلن في القاهرة عن ميلاد المنظمة العربية للتربية
والثقافة والعلوم (الألكسو)، بوصفها أول جهاز ثقافي عربي جامع، يتولى
تنسيق الجهود العربية في ميادين التعليم، والثقافة، والعلم. وقد ورثت الألكسو
-مباشرة- منجزات اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية، وتضمنت في هيكلها عددًا من
الإدارات الفنية، مثل إدارة الثقافة، وإدارة التربية، وإدارة البحث العلمي، وإدارة
المعلومات والاتصال.
تضمن
ميثاق الألكسو عددًا من المبادئ الكبرى التي شكّلت روحها التأسيسية، أبرزها:
- دعم
عوامل الوحدة الثقافية العربية.- تنمية
الثقافة العربية المعاصرة.- إحياء
التراث الثقافي العربي الإسلامي.- نشر
اللغة العربية وتعريف العالم بها. - تعزيز
الحوار الثقافي العربي مع الثقافات الأخرى.- جعل
الثقافة عنصرًا أساسيًا في التنمية. - إعداد
دراسات واستراتيجيات سياسات ثقافية عربية موحدة.- المساهمة
في تأسيس مكتبة مركزية عربي.
بهدف
تنسيق الجهود العربية في ميادين التربية والثقافة والعلوم.. والنهوض بالفكر
والثقافة العربية".
وتضمن
الهيكل الإداري للمنظمة: الإدارات الفنية، ولا يُسمح بإنشاء فروع خارجية لها.
والمؤسسات الثقافية الخارجية، وهي:
١/ معهد المخطوطات العربية (القاهرة / ١٩٤٦م).
٢/
معهد البحوث والدراسات العربية (القاهرة / ١٩٥٣م).
٣/
مكتب تنسيق التعريب (الرباط / ١٩٦٢م).
٤/
معهد الخرطوم الدولي للغة العربية (الخرطوم / ١٩٧٤م).
٥/
المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر (دمشق/ ۱۹۹۰م).
وهو
آخر جهاز ثقافي خارجي أنشئ في تاريخ المنظمة منذ خمسة وثلاثين عامًا.
وقد
تبنّت المنظمة مشروع "الثقافة من أجل التنمية"، وأكدت أن الثقافة هي
البنية الرمزية التي لا تقوم أمة من دونها، واعتبرت أن الهوية الثقافية العربية
تحتاج إلى حماية، وتنمية، وإعادة بناء في ظل التحولات التكنولوجية والسياسية
والاجتماعية المتسارعة.
ومنذ
إنشائها، عملت الألكسو على تنفيذ عدد كبير من المشاريع والبرامج الثقافية الطموحة
التي توزعت بين التأصيل، والتنسيق، والإبداع، ومن أبرز تلك المشاريع:
١/ إعداد "المشروع الثقافي العربي المشترك".
وهو
وثيقة مرجعية تهدف إلى توحيد الخطاب الثقافي العربي وتعزيز التعاون بين المؤسسات
الوطنية.
٢/ إطلاق "مشروع سفراء الألكسو للثقافة".
لتكريم
الشخصيات الثقافية المؤثرة، وإبراز رموز العمل الثقافي والفني في كل بلد عربي.
٣/ تعيين "اليوم العربي للمسرح" و"اليوم العربي للشعر".
كمناسبات
سنوية لتعزيز حضور الفنون العربية الحديثة في الوعي الجماهيري والمؤسسات التربوية.
٤/ إطلاق "رزنامة العواصم الثقافية العربية".
وهي
آلية دورية لاختيار عاصمة عربية كل عام للاحتفاء بنتاجها الثقافي، وتحفيز الجهات
الحكومية والأهلية على الإنتاج الثقافي المحلي.
٥/ برنامج "العقد العربي للحق الثقافي".
الذي
يُعنى بترسيخ مبدأ أن الثقافة ليست خيارًا، بل حقًا إنسانيًا واجب الحماية
والتكريس.
٦/ الاحتفاء برموز الثقافة العربية من خلال ندوات ومحاضرات "الألكسو الشرفية".
٧/ إصدار "المجلة العربية للثقافة ".
كمجلة
دورية فكرية توثق التحولات الثقافية، وتسهم في التنظير للمفاهيم والاتجاهات.
٨/ إعداد "موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين".
بوصفها
أداة مرجعية تسدّ نقصًا في التوثيق المعرفي العربي، وتُعزز من سردية الإنجاز
الحضاري. وصدرت في ٣٢ مجلدًا، نأمل أن تتوفر بصيغة إلكترونية، أو يعاد تقييم سعرها
بثمن قابل للشراء.
٩/ حماية التراث الثقافي العربي في المناطق المحتلة والمتضررة.
لعبت
الألكسو دورًا فاعلًا في حماية التراث الثقافي العربي والإسلامي في مدينة القدس
وسائر الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، عبر السعي لدى المنظمات الدولية
لإدانة الممارسات الاحتلالية ومحاولات طمس المعالم الأصلية.
١٠/ إنشاء قواعد بيانات ومراصد ثقافية عربية.
ساهمت
الألكسو في إنشاء قواعد بيانات وبوابات ومراصد تهدف إلى توثيق وحماية التراث
العربي، المادي وغير المادي، كـ"البوابة الإلكترونية للتراث الثقافي في
البلدان العربية" وإن كانت هذه البوابة لا تظهر في البحث الحر على منصة قوقل.
١١/ المؤتمرات الوزارية والسياسات الإقليمية.
نظمت
الألكسو ٢٤ دورة لمؤتمر الوزراء العرب المسؤولين عن الشؤون الثقافية خلال
(١٩٧٦-٢٠٢٥م)، منها دورتان استثنائيتان، ما جعلها مرجعية عليا في توجيه السياسات
الثقافية العربية.
١٢/ جوائز لتحفيز حفظ التراث الثقافي.
أطلقت
الجائزة العربية للتراث في عام ٢٠١٠م، والتي تهدف إلى تكريم الإنجازات المتميزة في
حفظ التراث الثقافي وصونه، ويبدو أن الجائزة لم تستمر كثيرًا.
١٣/ تأسيس "مرصد الألكسو".
يصدر
بشكل إحصائيات تهدف إلى تقديم بيانات ومؤشرات حول مختلف جوانب التربية والثقافة
والعلوم في الدول العربية. صدر منها ١٧ نشرة إحصائية، منها نشرة عن
"التراث الثقافي العالمي في الدول العربية".
١٤/ إصدار موسوعة "الكتاب المرجع في تاريخ الأمة العربية".
وهي
سلسلة موسوعية ضخمة تقع في عشرة مجلدات، وتزيد صفحاتها عن ٤٥٠٠ صفحة، تُعد من أضخم
مشاريع التوثيق التاريخي العربي في العصر الحديث، صدر مجلدها الأول قبل عشرين
عامًا (٢٠٠٥م). وبيعت بيعًا مدعومًا في مصر.
ترصد
الموسوعة أطوار الأمة العربية من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث، مع التركيز على
وحدة التيارات والروافد التاريخية في المشرق والمغرب. وقد صيغت بأسلوب علمي محكم
يوازن بين التحليل الموضوعي والرؤية الشاملة، وتجمع بين السرد والتحقيق الأكاديمي.
وتستهدف الموسوعة الباحثين والطلاب وصنّاع القرار الثقافي، بوصفها مرجعًا موثوقًا
يُعزز السردية التاريخية العربية المشتركة.
وفي
تقديري أنها أعظم مشروع وموسوعة علمية أصدرتها الألكسو منذ تأسيسها.
١٥/ إصدار "الكتاب المرجع في جغرافية وطن عربي بلا حدود".
وهي
سلسلة من أربعة مجلدات تغطي موضوعات الأرض، والسكان، والموارد، والمجتمعات
الحضرية. تهدف الموسوعة إلى إبراز وحدة الجغرافيا العربية في سياق تنوعها الطبيعي
والبشري، من خلال مادة تحليلية معمقة تعتمد على أحدث المفاهيم والنماذج الجغرافية
الحديثة. وقد تم إعدادها لتكون مرجعًا علميًا يُعين الباحثين والطلاب وواضعي
السياسات على فهم ديناميات المجال العربي المشترك.
هذه
الإنجازات على تنوّعها، تُظهر أن الألكسو لا تزال تحتفظ بإمكانات كبيرة لتكون
المرجع الثقافي الأعلى في الوطن العربي، لكنها قد تحتاج إلى تجديد مشاريعها،
وتحسين قدرتها على التأثير الجماهيري، والتحوُّل إلى دور التوجيه وصناعة التحول
الثقافي الطليعي.
وقبل
أن أشرع في عرض بعض المقترحات الثقافية، لا بد من الإشارة إلى منظمة الألكسو قد
اضطلعت منذ وقت مبكر (١٩٧٩م) بمهمة وضع "الخطة الشاملة للثقافة
العربية"، وصدرت عام ١٩٨٥م، وهي من أجود ما قرأت ووقفتُ عليه عن الثقافة
العربية، ثم تم مراجعتها عام ١٩٩٦م، واعتمادها رسميًا كمرجع ثقافي شامل. وأحسب
أنها في هذه المراجعة صدرت في أربعة مجلدات تعذر عليَّ الوقوف عليها بعد جهد طويل
وسؤال للمختصين، وفاتني السؤال عنها في مكتبة الألكسو في أبريل الماضي.
وفي
إطار توجه الألكسو نحو تحديث أدوات العمل الثقافي، تم تحديث الخطة عام ٢٠١٠م، وكان
آخر تعديل لها بعنوان "مراجعة الخطة الشاملة للثقافة العربية وتحديثها"
في ديسمبر ٢٠٢١م. وقد تميز هذا الإصدار الجديد باعتماده منهجية تشاركية، وترشيح
خبراء مستقلين لصياغة تصور أكثر استجابة لتحولات الواقع الثقافي.
وقد
تضمنت الخطة المُحدَّثة تسعة مقترحات رئيسية عرضتها الألكسو على الدول العربية
لتبنيها. وقد لفت نظري منها ثلاثة مقترحات، أجدُها جديرة بالإشادة، ويمكن البناء
عليها في إطار تطوير الرؤية الثقافية العربية المعاصرة. وسأعرضها في السياق التالي
بوصفها أمثلة حيّة على قدرة المنظمة في صياغة أطر تنفيذية ذات طابع وحدوي
واستشرافي.
١/ مشروع الفهرس الفني العربي المفتوح.
فهرس
مفتوح للأعمال الثقافية: الكتب والموسيقى والأفلام. يتيح للجميع، بفضل تقنيات
رقمية مندمجة، إنشاء مجموعاتهم الخاصة، وإضافة معلومات عن الأعمال المدرجة بالمنصة
وإنشاء رابط مع ويكيبيديا.
٢/ مشروع المنصة العربية المفتوحة للفنون.
وهي
خدمة تكنولوجية تمكن من الزيارة الافتراضية للمتاحف العربية والمعارض الأعمال
الفنية. وهي تعتمد على البيانات المتحفية المفتوحة إلكترونيًا.
٣/ مشروع المكتبة العربية الرقمية.
يهدف
المشروع إلى إنشاء مكتبة رقمية عربية افتراضية تتاح على شبكة الأنترنت وفق تنظيم
معياري دولي، وتشكل المكتبة بوابة تربط مركزيا المكتبات الوطنية العربية، وكل
المكتبات العربية الأخرى التي ترغب في الربط معها للوصول لمليوني كتاب.
وبصفتي
قارئًا مهتمًّا بتراث الثقافة العربية الحديثة، ومُطَّلعًا -بقدر ما تسمح به
الدراسة والمراجعة- على مسار النشاط الثقافي العربي منذ انطلاق جامعة الدول
العربية عام ١٩٤٥م، ثم تأسيس منظمة الألكسو عام ١٩٧٠م، وصولًا إلى احتفاليتها
بمرور خمسة وخمسين عامًا على إنشائها؛ فقد تبلورت لديّ، مع مرور الوقت، جملةٌ
من المقترحات العشر، التي أود طرحها هنا بروح المشاركة لا الإحاطة، والإفادة
لا الادّعاء. وقد يتقاطع بعضها مع ما سبق أن اقترحته الألكسو في خُططها أو
وثائقها، أو يكمِّل ما لم يتسنَّ لي الاطلاع عليه كاملًا، لكنها تُعرض في كل حال،
رغبةً في الإسهام في بناء رؤية ثقافية عربية أكثر تكاملًا وفاعلية. وهي:
١/ إطلاق سلسلة "تقرير الألكسو الثقافي العربي".
إصدار
تقرير ثقافي عربي كل عامين أو ثلاثة أعوام، على غرار تقرير اليونسكو العالمي، يرصد
مؤشرات النشر، والاقتصاد الثقافي، والتعليم، والتحول الرقمي الثقافي، والتحديات
المستقبلية. سيكون هذا التقرير أداة قياس تشاركية تُمكّن وزارات الثقافة العربية
من توفير بياناتها وتبادل الخبرات فيما بينها. كما يشكّل التقرير مرجعًا معتمدًا
لخطط التمويل والاستثمار الثقافي.
وتتيح
الألكسو منصة تفاعلية للدول الأعضاء لتحديث المؤشرات سنويًا. التقرير سيكون ملكًا
جماعيًا يُعاد إنتاجه كل عام بالشراكة مع كافة الهيئات الثقافية العربية، ومن
الممكن إصداره بالشراكة مع مؤسسة الفكر العربي، صاحبة التجربة المميزة في إصدار
"التقارير العربية للتنمية الثقافية".
٢/ برنامج "الذاكرة العربية المشتركة".
تطوير
منصة رقمية حية توثق عناصر الثقافة المشتركة في الوطن العربي، من تراث معماري
وأزياء وموسيقى إلى الرموز الثقافية. ويُبنى البرنامج على مشاركة الدول العربية
بإمداد المنصة بوثائقها وصورها وسردياتها المحلية غير المسيَّسة. بهدف بناء سردية
جامعة تعكس وحدة العمق الثقافي العربي. وتدير الألكسو هذا المشروع كمحفّز لبناء
أرشيف عربي مشترك تستفيد منه الأجيال القادمة. وتكون متاحة للجمهور وللباحثين
كمصدر حر ومفتوح. ويمكن الاستفادة من تجربة مكتبة الاسكندرية في مشروعها النوعي
"ذاكرة الوطن العربي".
٣/ صندوق الألكسو للترجمة النوعية.
تؤسس
الألكسو صندوقًا للترجمة الانتقائية يُعنى بترجمة الأعمال الفكرية والإنسانية
عالية القيمة من وإلى العربية، لا سيما في الفلسفة والتاريخ الثقافي. ويعتمد
الصندوق على لجنة استشارية من الدول العربية لترشيح الأعمال واختيار المشاريع
الأهم. كما يُشجّع المترجمين العرب على التقدم بمقترحاتهم ضمن دورات سنوية، مع
تمويل مفتوح من الدول والمؤسسات.
بهدف
تعزيز الحضور المعرفي العربي عالميًا، وربط الفكر العربي بالدوائر الأكاديمية
العالمية. وتُعرض الأعمال المنجزة على منصة رقمية موحدة. وللإحاطة فإن الألكسو
استكملت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي ترجمة الجزء الثاني والأربعين من أعظم
موسوعة تاريخيها وثقافية ترجمت للعربية -في تقديري- منذ زمن الرشيد حتى اليوم! وهي
موسوعة "قصة الحضارة" لديورنت (ت١٩٨١هـ) وكان
المشروع حسنة من حسنات "الإدارة الثقافية" بجامعة الدول العربية التي
شرعت في ترجمته منذ نهاية الأربعينيات! وكانت المجلدات تصدر بالتزامن مع ما يصدره
ول ديورانت وزوجته من مجلدات.
وهناك
مقترحات كثيرة لموسوعات لم تترجم للعربية لو صحت العزائم ولبَّت النداءات.
٤/ منصة "أطلس الثقافة العربية المتنقلة".
خريطة
تفاعلية ذكية تُظهر الحركة الثقافية النشطة في الوطن العربي، من مهرجانات وملتقيات
ومتاحف وندوات متنقلة. وتدعو المنظمة كل دولة إلى تغذية الأطلس بمعلومات الفعاليات
المحلية والإقليمية. يُستخدم الذكاء الاصطناعي ونظم المعلومات الجغرافية (GIS)
لربط المعطيات وتحليلها بصريًا. وتُمكّن هذه الأداة المثقفين وصنّاع السياسات من
التعرف على الفجوات والفرص.
٥/ مركز الألكسو للأبحاث الثقافية المقارنة.
مركز
بحثي معني بدراسة المفاهيم الكبرى التي تشكّل الثقافة العربية (الهوية، التعدد،
المواطنة، الاستعمار...) من منظور مقارن مع الثقافات الأخرى. ويستقبل المركز
مساهمات الباحثين من جميع الدول الأعضاء ضمن ندوات سنوية ومشاريع دراسات مشتركة.
كما يصدر المركز سلسلة كراسات سياسات تُوزَّع على وزارات الثقافة والهيئات
المعنية.
وتُخصّص
منصة رقمية مفتوحة لجميع البحوث والدراسات. هذا المركز سيُمثّل منصة حوار علمي
عربي تُدار من تونس بروح جماعية.
٦/ مشروع "المتاحف العربية الرقمية الموحّدة".
بوابة
موحدة تجمع محتوى رقميًا عالي الجودة من متاحف الدول العربية، يشمل الوثائق،
واللوحات، والمعروضات، وغيرها. ويُطلب من كل بلد التعاون في رقمنة محتوياته
الوطنية وإتاحتها وفق المعايير المتفق عليها. وتتيح البوابة محتوى تعليمي تفاعلي
للطلاب والمعلمين والباحثين. كما يُخصص ركن تعليمي مشترك لصياغة مسارات زيارات
افتراضية عبر البلدان. هذا المشروع يرسّخ التعاون الثقافي ويُبرز التنوع الحضاري
في إطار عربي.
٧/ مشروع "جامعة الألكسو المفتوحة للثقافة والفنون".
تطلق
الألكسو منصة تعليمية مفتوحة عبر الإنترنت، تضم مساقات متخصصة في الحرف والتراث
والفنون العربية، من الخط إلى المسرح، ومن التاريخ الثقافي إلى الأدب. وتشارك
الجامعات العربية، والمعاهد التراثية، والفنانين الكبار في إعداد المحتوى
التدريبي.
وتكون
المنصة متاحة للجمهور مجانًا، وتمنح شهادات مشاركة. كما تتيح لكل دولة أن تضيف
مساقات تعكس خصوصيتها الثقافية. وتُدار الجامعة رقميًا من قبل الألكسو.
٨/ سجل الرواد الثقافيين العرب.
قاعدة
بيانات تُوثّق سير أعلام الأدب والفكر والفنون في العالم العربي منذ القرن التاسع
عشر الميلادي. وتُفتح نافذة إلكترونية لكل دولة لترشيح شخصياتها وتزويد المنصة
بمعلومات ومواد أرشيفية ومرئية. كما تُنظَّم جائزة سنوية تُمنح لأحد الرموز الحية
أو لورثته، ضمن احتفالية عربية جامعة. يهدف هذا السجل إلى ترسيخ الذاكرة الثقافية
والاعتراف بالفضل الرمزي للمبدعين في تشكيل هوية الأمة. ولا يتصور بناء هذه
الموسوعة وتغذية قاعدة بياناتها دون الإفادة من "معجم البابطين لشعراء
العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين".
٩/ برنامج "ذاكرة المراكز الثقافية العربية".
إنشاء
أرشيف رقمي مرئي يوثق تاريخ المراكز الثقافية الكبرى في الوطن العربي: دار
الأوبرا، والمجامع، وبيوت الشعر، والمعاهد الثقافية الوطنية، وغيرها. ويُبنى
البرنامج على الشراكة مع وزارات الثقافة لتوفير الصور والوثائق. يهدف المشروع إلى
تسليط الضوء على المؤسسات الثقافية العربية الجديدة والموروثة والزائلة.
١٠/ مشروع "المطبوعات العربية النادرة".
بوابة
إلكترونية لحصر وتصنيف المطبوعات والدوريات العربية النادرة من القرنين التاسع عشر
والعشرين، مع تصويرها رقميًا وتوفير بياناتها الببليوغرافية.
وتُدعى
الهيئات الوطنية والمكتبات الكبرى للمساهمة بجرد مجموعاتها وتحديد أولويات
الرقمنة. يُفرّق المشروع بين المطبوع العادي والمطبوع النادر، ويضع معايير واضحة
لحفظ ذاكرة المطبوع العربي. هذا المشروع يعيد الاعتبار لميراث الطباعة العربي كجزء
من التاريخ الثقافي العربي.
ختامًا،
لقد
جاءت صرخة إبراهيم اليازجي في مطلع الثلث الأخير من القرن التاسع عشر تعبيرًا عن
ألم حضاري عميق، واستنهاضًا للنخب الثقافية، في زمنٍ سادت فيه العتمة العربية
والجمود العقلي.
واليوم،
وبعد مرور أكثر من قرن ونصف على تلك الصرخة (١٨٦٨م)، وقرن من وفاة آخر
اليازجيات (١٩٢٤م) إدراكًا لتلك الصرخة، وخمسة وخمسين عامًا على تأسيس الألكسو
(١٩٧٠م)، يمكن القول إن المنظمة، في جملة مشاريعها الأساسية ووثائقها المرجعية، قد
سعت فعليًا إلى أن تكون استجابة جزئية مؤسسية لتلك الدعوة النهضوية.
فمن
خلال مشروعها الثقافي العربي المشترك، وبرامجها المتعددة التي تربط الثقافة
بالتنمية، وجهودها في صيانة التراث وتوثيق التاريخ، وإطلاق موسوعاتها المرجعية
الكبرى، وإنشاء يومٍ عربيٍ للشعر والمسرح، وطرحها لمقترحاتٍ رائدة في خطتها
الشاملة للثقافة العربية، يتبيَّن أن الألكسو قد أدركت أن الثقافة ليست جهدًا مكمِّلًا،
بل نواة التكوين الحضاري للأمة.
لكن
في الوقت ذاته، فإن هذه الاستجابة، رغم عمقها المرجعي، ظلت في كثير من جوانبها
أسيرة الإطار الرسمي البطيء، ولم تتحول بعد إلى قوة طليعية حقيقية قادرة على إحداث
اختراق جماهيري واسع، أو أن تتبوأ موقع القيادة الثقافية عربيًا كما تقتضيه
المرحلة.
إن
ما قامت به الألكسو حتى الآن لا يُغلِق السؤال، بل يفتحه على أفق جديد:
كيف
نبني ثقافة عربية تمتلك مرجعيتها، وتعتز بتاريخها دون الانزواء فيه، وتنفتح على
العالم دون أن تفقد خصوصيتها؟
ثقافةٌ
واثقةٌ بذاتها، حيةٌ في وجدان الأجيال، حاضرةٌ في المجال العام، تمتد من الخليج
إلى المحيط، وتتجاوز النخبة لتصير في وعي الأفراد والآحاد.
أما
كاتب هذه السطور، فقد آن لقلمه أن يستريح، وقد أضناه المسير في دروب الهمّ الثقافي
العربي، وأثقله زمنٌ طال فيه الانكسار القيمي. لقد استكمل مداده من هوامش الكتب،
ومن أوراق المثقفين، ومن الحنين إلى نهضة لم تكتمل.
ويحسب
نفسه ممن لبَّى نداء اليازجي حين صرخ فينا:
تنبهوا
واستفيقوا أيها العرب،
لا
بالتمنِّي، بل بصدق السعي، كما قال اليازجي أيضًا:
لا
يصدق الفوزُ ما لم يصدق الطلب.
وما هذه المقترحات إلا محاولة متواضعة للعبور من الحلم إلى التخطيط، ومن الصرخة إلى المشروع، علّها تترك في الذاكرة أثرًا، وفي الطريق علامة.
تعليقات
إرسال تعليق