السياسات الثقافية في الوطن العربي: من التخطيط المركزي إلى الإبتكار المدني (1965-2025م)
لم يكن مصطلح "السياسة الثقافية" أو "التخطيط
الثقافي" متداولًا في الخطابات الحكومية العربية قبل منتصف القرن
العشرين، كما لم يكن معرّفًا في بنيات الدولة الحديثة بوصفه أداة سيادية لتنظيم
المجال الرمزي والمعرفي. وقد شكّلت مصر نقطة الانعطاف الأولى عربيًا عندما أنشأت
في أكتوبر ١٩٥٨م "وزارة الثقافة والإرشاد القومي"، في سابقة على المستوى
الإقليمي، لتُدرج الثقافة للمرة الأولى ضمن نطاق السياسات العامة للدولة.
وقد تولّى حقيبة الوزارة حينها ثروت عكاشة، المثقف العسكري الذي تميّز
بخلفيته الفرانكفونية المتأثرة بالنموذج الفرنسي، وبانفتاحه المتزامن على التجربة
السوفيتية الاشتراكية. وكان تأسيس وزارة الثقافة في فرنسا عام ١٩٥٩م، في أكتوبر
كذلك، تحت قيادة صديقه أندريه مالرو، لحظة مفصلية ألهمت العالم في ترسيخ فكرة
"السياسة الثقافية" كمفهوم ومؤسسة. وفي المقابل، اعتمدت الاتحاد
السوفيتي منذ العشرينيات سياسة "التثقيف الاشتراكي"، دون أن تستخدم
مصطلح "السياسة الثقافية"، وإن تشابه المضمون. وسبق السوفيات الجميع
بإنشاء وزارة الثقافة عام ١٩٥٣م.
وجد ثروت عكاشة نفسه، في مطلع الستينيات، في موقع فريد يتيح له
الاستفادة من نموذجين متباينين: النموذج الجمهوري الفرنسي ذي النزعة الليبرالية،
والنموذج الاشتراكي السوفيتي، وشرع في بناء سياسة ثقافية تتّسم بالتخطيط المركزي
والرؤية التنموية الشاملة.
ولأن فكرة "السياسة الثقافية" كانت جديدة -آنذاك-
على بعض المثقفين الذين يتحفظون على تدخل الدولة في المجال الثقافي، فقد اضطر ثروت
عكاشة لجمع المثقفين المرتبين واللقاء بهم لشرح عوائد هذه السياسة، وكان ذروة هذه
اللقاءات خطابه التاريخي في مجلس الأمة في يونيو ١٩٦٩م عن "السياسة
الثقافية".
مثَّل هذا الخطاب وثيقة تأسيسية للسياسة الثقافية في العالم العربي،
أوضح فيه عكاشة أن منظمة اليونسكو بدأت باستخدام وتفعيل المصطلح منذ عام ١٩٦٧م، ثم
شرع عكاشة بكل ثقة واقتدار بشرح منجزات الوزارة ثقافيًا وفنيًا وأدبيًا في الآثار،
والمكتبات، والفنون التشكيلية، ونشر الكتب، والمسرح والموسيقى، والسينما، والفنون
الشعبية، وغيرها.
في هذه الخطبة والكلمة التاريخية، حدد عكاشة موقف الثقافة من التراث،
وحدود تدخل الدولة، وأسلوب النشر الثقافي، والثقافة بين الربح والخدمات، وعقبات
الطريق نحو "الثقافة الجماهيرية".
وغني عن القول أن يُقال، إن مصر شهدت أوسع إشعاع ثقافي في المنطقة
بفضل هذه السياسات، إذ كانت تطبع عشرات العناوين يوميًا، ووصل عدد السلاسل
الثقافية إلى أكثر من خمسين سلسلة. ونجحت في إطلاق أكبر حملة دولية لإنقاذ آثارها
في النوبة، ونظمت في باريس المعرض الأكثر ربحًا لمقتنيات "توت عنخ آمون"
عام ١٩٦٧م، ولا ننسى حفلتا السيدة أم كلثوم لدعم "المجهود الحربي" بعد
أحداث النكسة، مما يؤكد ضرورة التحام الثقافة بالوجدان الوطني.
ثم انطوت تلك السنون، وتبدلت السياسات والإيديولوجيات، لتأخذ الثقافة
موقعًا متقدمًا في المشهد الدولي بعد "إعلان مكسيكو الثقافي" عام ١٩٨٢م،
إثر المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية الذي نظمته اليونسكو، لتعلن فيه أن
"الثقافة هي بعد أساسي من أبعاد التنمية الشاملة". ومنذ ذلك الحين،
أصبحت السياسة الثقافية شأنًا دوليًا مؤطرًا بمفاهيم الحقوق، والتنوع، والهوية،
والتنمية، وشأنًا منوطًا بسياسات الدول شبه السيادية.
وفي السياق ذاته، ظهرت خلال العقدين الأخيرين موجة عالمية جديدة
لتصميم السياسات، تمثلت في ثورة الهاكاثونات (٢٠٠٥-٢٠٢٠م)، حيث بدأت شركات
التقنية، وخصوصًا في وادي السيليكون، باللجوء إلى "الهاكاثون" كأداة
لاختبار الحلول بشكل تشاركي وسريع. ومن رحم هذه الظاهرة التقنية، وُلدت الحاجة إلى
أدوات مماثلة في المجال الثقافي، فظهر في الأوساط الشبابية والجامعية مؤخرًا مصطلح
"بوليسيثون" (Policython)، لتصميم حلول ثقافية سريعة وقابلة للتطبيق، بمشاركة طلابية
وجماهيرية، تعتمد على الحلول التقنية والتشريعية.
وقد تفاعلت منظمة اليونسكو مع هذا التوجه الجديد، فبدأت تنظم فعاليات
بوليسيثون ثقافية في عدة دول، بوصفها نموذجًا حيًّا لإشراك الشباب في تصميم
السياسات، وممارسة الابتكار المدني المفتوح في الشأن الثقافي.
تقاطعت هذه الحالة الثقافية الدولية مع إنشاء وزارة الثقافة
السعودية، وتأسيس وكالة معنية بـ"الاستراتيجيات والسياسات"
الثقافية، وتعيين الأستاذ البراء العوهلي وكيلًا لها، وهو يأتي من
خلفية ثقافية/تقنية في تخصصه في الحوسبة والخوارزميات، وخبرته في إدارة البرامج
الثقافية في مركز إثراء (مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي)، وعمله السابق
كنائب لـ"برنامج تعزيز الشخصية الوطنية"، إضافة لما يكتنزه من قراءات
ثقافية جادة. كل هذا منح الوكالة خصوصية في تصميم سياسات ثقافية أكثر مرونة
واستشرافًا للمستقبل، قادرة على التعامل مع الأدوات الجديدة مثل البوليسيثون
والهاكاثون الثقافي.
ومع وجود قيادة ثقافية عليا ممكِّنة في الوزارة، تم الإعلان عن فعالية
نوعية غير مسبوقة على مستوى الخليج "تحدي الابتكار الثقافي" خلال
الفترة من ٢٥ مايو إلى ٢٣ يوليو ٢٠٢٥م، بوصفه أول هاكاثون للسياسات الثقافية
(Policython)
يُنظَّم بصيغة رسمية؛ بهدف تصميم سياسات ثقافية من خلال إشراك نخبة من الشباب
المعنيين بالشأن الثقافي ليقدموا حلولًا وسياسات قادرة على حل التحديات أو استغلال
الفرص القائمة لدعم نمو وازدهار القطاع الثقافي، وخصصت الوزارة جوائز تتجاوز نصف
مليون ريال.
كان من المذهل أن يتقدم أكثر من ٤٠٠٠ متقدم من اليابان شرقًا إلى
إسبانيا غربًا، واختير منهم ١٥٠ متنافس فقط، شكلوا ١٥ فريقًا، بلغ التصفيات
النهائية منها خمسة فرق.
شخصيًا كنتُ متابعًا لإعلان الفعالية، ووقفتُ على الحياد من إمكانية
نجاحها؛ لأنني أنتمي لجيل أو رؤية ترى أن السياسة الثقافية يصنعها المثقفون. وسعدت
بتلقي دعوة كريمة لحضور الحفل الختامي للفعالية لأقيس بموضوعية هذا التحول النوعي
في المقاربة الثقافية.
وقبل الحديث عن تنافس الفرق المشاركة، كان من الجميل في التنظيم
اختيار أغنية مناسبة للحدث، وكأنّ الحفل أراد أن يُعلن منذ اللحظة الأولى أن
السياسة الثقافية تبدأ من التفاصيل، من أغنية "عاشقينك" من كلمات الشاعر
السعودي أحمد علوي:
شايفينك حلمنا بعيوننا حافرين اسمك بوسط قلوبنا
شايفينك قصة في بيت طين عن غلا التاريخ وأهله الأولين
تمرة من نجد وفنجان قهوة ومع دخون العود ياخذنا الحنين
وعاشقينك بالرياض اللي لنا الحضن
الكبير وعاشقينك بجسر شرقية إلى
سودة عسير
بعدها بدأت الفرق المتنافسة بعرض ابتكاراتها الثقافية في عدة مسارات،
فكان الفريق الأول "من الفائزين" في مسار "المواسم والأعياد"
بشعار "من هلال لهلال" بفكرة مستلهمة من المكسيك لإنشاء "هوية
موحدة للأعياد والمواسم الدينية والثقافية في السعودية" لتصدير هوية ثقافية
ذات عوائد اقتصادية، وتميزت الفكرة بإمكانية تطبيقها السريع واليسير، وتوقعت أن
يأخذ المركز الأول، وقاربه بأخذه المركز الثاني.
ثم عرض الفريق الثاني "سنا الضاد" فكرته ضمن مسار
"اللغة العربية" بشعار ختم "عربية الهوية" لتحفيز القطاع
الخاص على استخدام اللغة العربية في العلامات التجارية، لتحويل اللغة لأداة
تسويقية! وهذا ما نحتاجه فعلًا لصنع ترميز ثقافي للغتنا، وتوقعت أن تحصل هذه
الفكرة على المركز الثاني، ونال المركز الخامس، ولله في خلقه شؤون.
تلاه الفريق الثالث "الخزامى" في مسار "السياحة
الثقافية" بشعار "أهلها لتراثها" وتتخلص فكرته في رسم ميثاق
المشاركة المجتمعية في حماية الأصول التراثية، واتخذوا من تجربة "قرية رجال
ألمع التراثية" نموذجًا للدراسة والتطوير، واستحقوا بابتكارهم المركز الثالث.
شارك الفريق الرابع "صوى" ومعناه "الحجارة
المتراكمة" في مسار "السياحة الثقافية" أيضًا، بشعار "سياسة
القرى الثقافة الحيّة"، وقدموا إحصاءً يلخص فكرتهم أن ٧٥٪ من الزوار عالميًا
يبحثون عن تجارب ثقافية أصيلة، و٦٣٪ يبحثون عن أماكن غير معروفة لاستكشاف
ثقافتها. وقدموا محددات لما يمكن تقديمه من القرى الثقافية في فنون الطهي، ومنتجات
الحرف اليدوية، وتطوير المباني الأثرية، وغيرها. ولعل هذه الرؤية الواضحة ما
أهلتهم للحصول على المركز الأول، ومبلغ ربع مليون ريال.
أما الفريق الخامس "طروق" في مسار "العادات
والتقاليد" فشارك بفكرة -نعدُّها أُمنية- تضمين المناهج الدراسية
"العادات الأصيلة" مستندين إلى تقرير الحالة الثقافية (٢٠٢٣م) عن
"غياب العادات الأصيلة من التعليم والتدريب الثقافي"، واستلهموا تجربة
من المكسيك أيضًا! ولا عجب فهي دولة منخرطة في السياسات الثقافية منذ أكثر من
أربعين عامًا، واستضافة مؤتمر اليونسكو للسياسات الثقافية مرتين، ترأس سمو وزير
الثقافة الوفد السعودي في مؤتمرها الأخير عام ٢٠٢٢م.
بعد إعلان النتائج وانتهاء الحفل، التقيت ببعض الفرق التي لم يحالفها
الحظ بالفوز، وكنت أقول لهم ما قاله سعادة الوكيل في كلمته: "الفوز الحقيقي
أن نُبقي على هذه الشعلة متَّقدة بداخلنا"؛ لأن العقل المبتكر للأفكار، وإن
لم يحصد جائزة اليوم، فسيبدع غدًا وبعد غدٍ.
توفي ثروت عكاشة في فبراير ٢٠١٢م، ولو أمهله القَدَر قليلًا لرأى كيف
تحولت السياسات الثقافية من التخطيط المركزي للنخب المثقفة إلى الابتكار الثقافي
المدني للمؤسسات والأفراد، وبين التجربتين عقود من التحولات، والرؤى المتباينة.
شخصيًا، خرجت من
التجربة بقناعة تدفعني إلى الترويج لهذا النموذج، وأرى استحقاق تنظيمه سنويًا،
وتوسيع نطاق الفائزين إلى عشرة فرق، وتضمين مجالات النشر والأدب والمكتبات
والأزياء والمتاحف ضمن التصفيات النهائية للأفكار المقدمة، لتحفيز هذه المجالات
بالمبتكرات الجديدة.
ختامًا، نتوجه بالشكر
لسمو وزير الثقافة، ونائبه، ومساعده، على هذه الفرصة الثمينة التي أُتيحت
للمشاركين والمتابعين، والتي سيكتب لها -بإذن الله- أن تكون بذرةً لواقع ثقافي
جديد، ينمو ويثمر عبر السنين القادمة.
كما لا ننسى فريق الوكالة المنظِّم، والذي خاض بدوره "هاكاثونه
الخاص" لإنجاح هذه التجربة الأولى. ونخص بالذكر الزميلات والزملاء نورة
الموسى، وخولة آل الشيخ، وسعد الشثري، وآخرين ساهموا بصمت خلف الأضواء، فشكرًا لهم
جميعًا، وكل عام ونحن إلى الابتكار الثقافي أقرب.
تعليقات
إرسال تعليق