شريط المقالات

من المدينة إلى العالم: كيف ابتكرت رابطة العالم الإسلامي نموذجًا حضاريًا لعرض السيرة النبوية؟


من المدينة إلى العالم: كيف ابتكرت رابطة العالم الإسلامي نموذجًا حضاريًا لعرض السيرة النبوية؟


لم يكن في ظني أن لحظة واحدة قادرة على أن تختصر في داخلها شعور الزائر، والمتأمل، والمحب، والباحث، في آنٍ واحد؛ لكن هذا ما حدث تمامًا بعد صلاة العصر، يوم الأربعاء الماضي، حين غادرت المسجد النبوي الشريف، وقد غمرني سلامٌ عابق بالنور، تركته على النبي ﷺ وصاحبيه، بالقرب من الروضة المباركة، حينها، وجدتُ نفسي أتمتم بغير شعور:

يا خيرَ من دُفنت في القاعِ أعظُمُهُ،            فطابَ من طيبهنَّ القاع والأكمُ

نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُهُ،               فيه العفافُ وفيه الجود والكرمُ


متجهًا في خطواتٍ متباطئة نحو الجهة الجنوبية، إلى حيث يقع "المعرض والمتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية"، كنت أتهيأ داخليًا لعبورٍ من نوع آخر.

فما إن وصلت إلى العتبة الأولى للمعرض، ووقفت أمام التجسيد التاريخي لمسجد النبي ﷺ، حتى شعرت أن الزمن عبر بي ألفًا وأربعمئة عامٍ ونيّفًا، إلى بداية الإسلام الأولى، إلى الوحي المنزل، والصحب الكرام.

بدا لي المشهد، وكأني دخلت المسجد على هيئته الأولى؛ حيطانه من اللَّبن والحجارة، وسقفه من الجريد، وأعمدته من جذوع النخل. لا زخارف، ولا ألوان، بل بساطةٌ تقيم الحُجّة، وتُعرّي النفس من غفلتها. يتوسطه فضاء رحب، شهد -واقعه التاريخي- نزول الوحي، والرباط، والتضرّع للحق -جلَّ في علاه-.

كل خطوة، توقظ في القلب حديثًا محفوظًا أو مشهدًا مألوفًا. هنا -على وجه المجاز- وقف النبي ﷺ خطيبًا على منبره الذي صُنع من ثلاث درجات، وبالقرب منه حنّ جذع النخلة إليه، وهناك خوخة الصدِّيق "لا يَبْقَيَنَّ في المسجد خوخة إلا سُدت إلا خوخةَ أبي بكر".

في لحظة خاطفة، يستشعر الزائر -أو يذكِّره مرشدنا الحسن البراهيم- كل ما قرأه من أحاديث تُروى عن جذوع النخل وأسطوانات المسجد، وسقفه وحجارته، وعن تسوية الصفوف، وآخر من كانوا ينامون عليها من الفاقة؛ أهل الصُفّة.

كان هذا المسجد المجسّد، بابًا لفهم الرسالة المحمدية، دون خطبٍ أو تزويق حديثٍ، فقط جدرانٌ وأعمدة ونخلات ساكنة تقول: "هنا كان بعث الإسلام، وإلى جواره دفن نبيه الأكرم ﷺ.

وبجوار المسجد المجسَّد، تجسيدٌ آخر اقتطع من التاريخ جغرافية بيت النبي ﷺ وحجرته الشريفة. هناك، في عرض مرئي مشحونٍ بعبق الجلال، تمثّلت لنا غرفة متواضعة البناء؛ بناءٌ ترابي وسقف نباتي، غدا مرجعًا أبديًا؛ فيها نزل الوحي، ومنها خرج نورٌ عمّ الأرض.

ومع انسياب المشهد رويدًا، بدأ العرض يستدعي من بطون السيرة، مكونات الغرفة النبوية: وسادة النبي ﷺ من جلد محشو بالليف، وفراشه كذلك، رقيق متواضع. 

وكأنك تشهد الحدث بعينك: يدخل عَدي بن حاتم، فيتناول له النبي ﷺ وسادته، فيرفضها حياءً، فيأمره ﷺ بالجلوس، ويجلس هو على الأرض.

ثم ترى بعين عمر، يوم دخل فوجد النبي ﷺ مستندًا إلى وسادة من ليف، وقد ترك الحصير أثره في جنبه الشريف، فبكى، فقال له النبي ﷺ:

"أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟"

تلك اللحظة كفيلة بأن تعيد ترتيب فهمك لمقاييس العظمة، فالذي أُتيح له ملك الأرض، اختار الكفاف، وفضّل بيت الطين على إيوان كسرى.

بهذا التجسيد، قدّمت رابطة العالم الإسلامي السيرةَ النبوية الشريفة بصورة حضارية، وتقنيات حديثة، تنقل الزائر من المشاهدة إلى المعايشة، ومن المعرفة إلى الوجدان.

ولم تكتفِ الرابطة بتجسيد الهيكل المكاني للمسجد والحجرة الشريفة، بل امتدّ العرض ليُجسّد سيرة النبي ﷺ في تفاصيل حياته ومواقفه، من خلال أجنحة متخصصة تُبرز علاقته بالمرأة، وتعامله مع الطفل، ومنهجه في التفاعل مع الأقليات، وموقعه التربوي في بناء المجتمع بلغة معاصرة، ومضمونٍ موثّق.

وما إن تخرج من قاعات المتحف حتى تدرك أن هذا المشروع لم يُصمم ليكون تجربة محلية، بل نموذج حضاري لعرض السيرة النبوية، بدأ من المدينة المنورة، وانطلق منها إلى العالم برعاية رابطة العالم الإسلامي، التي تبنّت هذا المشروع، وأشرفت عليه تنفيذًا وتوسّعًا واستدامة.

فمن قلب المدينة، وعلى مقربة من مسجد النبي ﷺ، انطلقت سلسلة المتاحف النبوية إلى العواصم العالمية، فافتُتح أول فرعٍ خارجي في جاكرتا، ثم الرباط، تلتها نواكشوط، بدعوات رسمية من حكومات تلك الدول.

واليوم، يستعد المشروع لافتتاح فروع جديدة في أكثر من ٢٥ دولة، بعد أن وجد التأييد الكامل من زعمائها ورؤسائها، الذين وقفوا وقفة إكبار لهذه الرؤية الثقافية الإسلامية المعاصرة، واحتفوا بها بوصفها نموذجًا لتقديم الإسلام في أرقى صوره الحضارية.

ولم يقتصر هذا الاحتفاء على المستوى السياسي، بل تجاوزه إلى المرجعيات العلمية التي أثنت على مضمونه ورسالته. ففي كلمة مؤثرة، قال فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب: "هذا المشروع المعجزة لو اجتمعت عليه مؤسسات وقطاعات كثيرة لم تكن لتبرزه بهذه الصورة المشرّفة، التي تناولت جوانب واضحة وخفية من حياة خير البشر ﷺ، وإننا في الأزهر سنسخر كل الإمكانيات لخدمة هذا المشروع".

وإذ نختم هذه الجولة المفعمة بالسكينة، فلا يسعنا إلا أن نُسجّل بامتنانٍ بالغ الدور الريادي الذي نهض به معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، أمين عام رابطة العالم الإسلامي، في الإشراف المباشر على افتتاح هذا المشروع، ومتابعة انطلاق فروعه في عدد من العواصم الإسلامية.

فلقد أدار هذا العمل بعينٍ ترى في السيرة النبوية إرثًا يجب أن يُروى بلغة تليق بعالميتها، فكان حضوره مُتلمّسًا في أدق تفصيل، من التخطيط إلى التنفيذ، ومن المبنى إلى المعنى. 

فالشكر لمعاليه على هذا الإشراف الثقافي النوعي، الذي أخرج السيرة النبوية في أبهى صورها المؤسسية، وأرفع صيغها المعرفية المعاصرة.

الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال