تقدير عمر المخطوط: دورة استثنائية من معهد المخطوطات العربية تعيد تشكيل أدوات الباحث في التراث العربي
في خطوة غير مسبوقة على مستوى المراكز والمعاهد المتخصصة، أطلق معهد المخطوطات العربية بالقاهرة صباح اليوم، الإثنين ١٤ يوليو ٢٠٢٥م، دورة علمية تدريبية بعنوان:
"تقدير عمر المخطوط ومعرفة جغرافيته: الأسس والتوظيف"، وذلك ضمن برنامجه السنوي للدورات المتخصصة في علوم المخطوط.
تأتي أهمية هذه الدورة من كونها تفتح بابًا قلّما طُرِق في السياق العربي، فرغم كثرة الأبحاث والدراسات التي تناولت موضوع "تحقيق النصوص ونشرها" و "علم المخطوطات"، إلا أنه يندر جدًا أن نجد دراسات معمّقة تناولت موضوع "تقدير عمر المخطوط" بوصفه مجالًا علميًا مستقلًا، يُبنى على قواعد دقيقة أو تقديرية، ويُسهم في فهم التاريخ الفعلي لولادة النسخ الخطية ونصوصها (علم تاريخ النص).
وغالبًا يتم تناول الموضوع ضمنيًا في سياق الحديث عن نِسبة الكتب مجهولة المؤلف أو العنوان، أو في سياق كشف التزوير والانتحال في المخطوطات، دون أن يُفرد له نطاق منهجي مستقل يزاوج بين البنية المادية للنص وبنيته الدلالية.
ومن هنا، فإن "علم تقدير عمر المخطوط" لا يُعد مجرد تقنية أو فرع مساعد، بل هو ركيزة تحليلية تُسهم في تصحيح النِّسب، وكشف الانتحالات، وتتبع السياق الزمني لتكوّن النصوص.
ورغم أن التحليل المادي يمنحنا -في أفضل حالاته- تقديرًا زمنيًا في حدود قرن من الزمن، إلا أن تحليل الأسلوب، وبنية التبويب، والمصطلحات، وعنونة النص، تمكّن الباحث من تضييق هذا النطاق الزمني بدرجة كبيرة، وتغنيه عنه في أحوال كثيرة.
ومن أبرز فوائد هذا العلم أنه يُمكّن الباحثين من التعرّف على أقدم المخطوطات العربية غير المؤرخة، فالمخطوطات الألفية (ما كُتب قبل عام ٤٥٠هـ) تُقدّر بنحو ٣٠٠ مخطوط، أكثر من نصفها (٦٥٪) مؤرخ، أما المتبقي فتمّ التوصّل إلى قِدمها من خلال تحليل شبكة معقّدة من القرائن الداخلية والخارجية.
وتشمل هذه القرائن: أنماط الخطوط المستخدمة في كل فترة، ونوع الورق، وخصائص الأحبار، إضافةً إلى تحليل الصياغة اللغوية، وأسلوب التأليف، وبنية التبويب والتسلسل المنطقي للنصوص، بل وحتى المفردات المعرفية التي كانت سائدة في بيئة ثقافية معينة.
أما من حيث البرنامج، فقد بُنيت الدورة على هيكل أكاديمي متماسك يمتد لأربعة أيام (من ١٤ حتى ١٧ يوليو)، تُقدَّم خلالها ١٨ ساعة تدريبية عبر ثلاث محاضرات يوميًا، ويشارك فيها ١١ أستاذًا وباحثًا من أصحاب الاختصاص في علوم المخطوط، والفيلولوجيا، وتحليل النصوص، والعلوم الطبيعية.
تناول اليوم الأول مداخل تأسيسية، حيث تحدث الأستاذ الدكتور عبد الستار الحلوجي عن نشأة المخطوط العربي وعوامل تطوره، تلاه الأستاذ الدكتور أيمن فؤاد سيد بمحاضرة عن الجغرافيا الثقافية لانتشار المخطوط العربي، ثم اختتم اليوم بمحاضرة للدكتور خالد فهمي عن بنية النص كقرينة زمنيّة لتأريخ المخطوط والنص.
وفي اليوم الثاني، ستقام محاضرات عن خوارج النصوص (د. سعيد الجوماني)، وعن حوامل الكتابة (د. حسن عبيد)، وعن توظيف الأحبار لمعرفة عمر المخطوط (د. مدين حامد).
أما اليوم الثالث، فخصص لمحاور التذهيب والتصاوير والزخرفة (د. تامر مختار)، وتحليل خصائص الخط العربي (د. محمد حسن)، وأساليب التجليد ومدى ارتباطها بالمناطق والفترات الزمنية (د. سامح البنّا).
ويختتم البرنامج في اليوم الرابع بمحاضرات عن العلامات المائية (د. فطومة بن يحيى)، وعن التقنيات الحديثة لفحص المخطوط (د. أميرة عزب).
بهذه الدورة، يفتح معهد المخطوطات العربية أفقًا جديدًا للتكوين المعرفي، ويُعيد الاعتبار إلى علم دقيق يُلامس قلب التراث، لا في نصوصه فحسب، بل في مادته وزمنه وسياقه الحضاري.
إنه استحقاق معرفي، طال انتظاره، فشكرًا لسعادة مدير المعهد، وللمحاضرين، وللقائمين على الدورة تنسيقًا، وإدارةً، وتقنيةً، وإعلامًا.
تعليقات
إرسال تعليق