شريط المقالات

من السجل الثقافي إلى التقرير الثقافي: تقاليد توثيق الثقافة بين التجربتين المصرية والسعودية (١٩٤٨-٢٠٢٤م)


من السجل الثقافي إلى التقرير الثقافي:
تقاليد توثيق الثقافة بين التجربتين المصرية والسعودية (١٩٤٨-٢٠٢٤م)

في أواخر عام ١٩٤٧م، وفي أروقة وزارة المعارف العمومية بالمملكة المصرية، تبلور شعورٌ متزايد لدى القائمين على الشأن الثقافي بأن ما يُبذَل من جهود ثقافية وفنية في البلاد -من قِبَل الهيئات الرسمية والجهات المدنية- لا يجد من يجمعه أو يُبرز ملامحه.

رأت "المراقبة العامة للثقافة" بالوزارة أن توثيق هذا النشاط سيكون "دعاية قوية لمصر"، و"مادة نافعة" تتيح للدارس متابعة سير تلك الهيئات، وتعين الدولة في توجيهها والاستزادة من نفعها.

ومن هنا نشأت الفكرة، واتُّخذ القرار بإنشاء قسم جديد سُمِّي "إدارة التسجيل الثقافي"، مهمّته جمع مظاهر النشاط الثقافي في البلاد من شتى جوانبه، ليكون في متناول الباحثين والجهات الرسمية.

وقد حُدد لهذه الإدارة غايتان صريحتان:

١/ تعريف ضيوف مصر والمهتمين من الأجانب بما بلغته البلاد من الثقافة العامة.

٢/ إعداد البيانات والوثائق التي تحتاج إليها الدولة والهيئات العلمية والمثقفون لتدعيم النهضة وتوجيه برامج الثقافة على أساسٍ علمي رشيد.

وصدر أول سجل ثقافي لعام ١٩٤٨م، مُستعرضًا ما شهدته البلاد من أنشطة ثقافية، رسمية وشعبية، علمية وأدبية، محلية ودولية.

وكان واضحًا أن القائمين عليه -من أمثال محمد سعيد العريان وعبدالحميد يونس ورفاقهما- لم ينطلقوا من تكليفٍ روتيني، بل من حمية ثقافية واعتزازٍ وطني، دفعهم إلى تخصيص مكانٍ مستقلٍ لإدارتهم بعيدًا عن مكاتب الوزارة، ليتفرغوا في هدوء إلى جمع مادة العام الثقافي وتنسيقها، أو كما قالا من "ضغط أصحاب الحاجات الذين تزدحم بهم مكاتب الموظفين وردهات الديوان".

لم يكن "السجل الثقافي" الذي صدر عن وزارة المعارف المصرية جهدًا مجتزأ أو عملًا انتقائيًا، بل جاء في صورة كتاب سنوي شامل، عمد إلى إحصاء النشاط الثقافي في البلاد من جميع جوانبه، فجاء موزّعًا على ستة عشر بابًا، كأنها مرآة بانورامية دقيقة لحياة مصر الثقافية في عامٍ كامل. فجمعوا حركة النشر، وأنشطة المؤسسات، وامتدت عنايتهم إلى البرامج الإذاعية والمهرجانات والمؤتمرات والحفائر الأثرية، وكأنهم أرادوا أن يخلدوا إرثَ أمة عربية، كانت الثقافة لا تغيب عنهم ليلًا أو نهارًا! أليس بين ظهرانيهم طه حسين وأحمد أمين وساطع الحصري وعبدالرحمن عزّام؟!

وقد توزّعت أبواب السجل على النحو التالي:

١. الكتب: رُصدت فيه المؤلفات الصادرة في مختلف صنوف المعرفة، إضافة إلى ما تُرجم إلى العربية، مع تخصيص حيّز واضح للسلاسل الثقافية الرائجة مثل "اقرأ"، و"روايات الهلال"، و"كتاب اليوم".

٢. الرسائل الجامعية: وهو باب يُظهر عناية السجل بالبحث الأكاديمي في الجامعات المصرية، بمختلف التخصصات.

٣. دور الكتب (المكتبات): وقُسّمت إلى أربعة أقسام دالة على تنوّع البنية المعرفية: المكتبات العامة، مكتبات الهيئات الحكومية، المكتبات الحرّة (الأهلية)، والمكتبات الجامعية.

٤. دور النشر: رُصد فيه نشاط الناشرين العرب والمصريين، وحجم إصداراتهم، وتخصصاتهم، واتجاهاتهم المعرفية.

٥. الصحف والمجلات: بوصفها وسائط الثقافة اليومية.

٦. الأبحاث.

٧. المحاضرات الثقافية: وهي مواد فكرية حُرّرت وألقيت في مناسبات علمية وثقافية، تم توثيقها ليتيسر الرجوع إليها مستقبلًا.

٨. الإذاعة: وما بثّته من برامج ثقافية وأدبية، بوصفها الوسيط الأكثر حضورًا في وجدان الجمهور في ذلك الزمن.

٩. الهيئات: وفيه استعراضٌ شامل لنشاط الهيئات الثقافية، والعلمية، والفنية، مثل مجمع الملك فؤاد للغة العربية، وجمعية الفلسفة المصرية، وجمعية الآثار.

١٠. المؤتمرات: من المؤتمرات الاجتماعية والتعليمية، إلى المؤتمرات العلمية والإعلامية، المحلية منها والدولية.

١١. التعاون الثقافي: وفيه عرض لما جرى من تنسيق وتبادل ثقافي مع جهات إقليمية ودولية، وعلى رأسها اليونسكو والدول العربية.

١٢. المهرجانات والمسابقات: ومنها جوائز الدولة التقديرية، ومسابقات المجامع، والأنشطة التي تكرّم المبدعين.

١٣. المتاحف: من الأثرية إلى الفنية، وُثّقت أنشطتها، واقتناءاتها، وحركتها الثقافية.

١٤. الحفائر الأثرية: رُصدت فيها أعمال التنقيب والاكتشافات الأثرية.

١٥. المعارض الفنية: بما عُرض فيها من أعمال تشكيلية وصناعات فنية، وأسماء المشاركين، والجوائز الممنوحة.

١٦. المسرح والسينما: بوصفهما مجالين حيّين للفن والجمهور، رُصدت فيهما الأعمال، والعروض، والمهرجانات.

ومن عام ١٩٤٨م إلى عام ١٩٨١م تقريبًا، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، صدر "السجل الثقافي" المصري في هيئة كتاب سنوي، يُوثّق ما شهدته البلاد من نشاط ثقافي في جميع المجالات. وكان يتنقّل في تبعيته من وزارة المعارف العمومية إلى وزارة الثقافة بعد إنشائها عام ١٩٥٨، لكنه ظل وفيًا لروحه الأولى؛ مصر الثقافة والعروبة.

لقد حفظ هذا السجل، ذاكرة جيلٍ بأكمله؛ جيل ما قبل الاستقلال والجلاء وما بعده، بكل صراعاته وإنجازاته، بكل شغفه بالمعرفة وانحيازه للتنوير.

ومن مصر الأربعينيات إلى سعودية القرن الحادي والعشرين، عاد رصد الثقافة بصورة معاصر وفق معايير اليونسكو في الرصد والمتابعة، فصدر عام ٢٠١٩م أول "تقرير للحالة الثقافية" في المملكة، ليكون بداية التوثيق السنوي للعمل النشط في الآداب والفنون والمكتبات في المملكة.

كشف التقرير عن سرد غير تقليدي، فحمل نَفَس الرصد الإحصائي، فالأرقام تتحدث، والمبادرات تُقاس، والمشاريع تُعرض بلغة الأداء، والإنجازات تُفصّل وفق مؤشرات ومعايير وأهداف، ما يجعله نموذجًا معاصرًا لتقارير الثقافة المؤسسية.

ومنذ أيام، صدر "التقرير الثقافي" لعام ٢٠٢٤م، ليعكس طموح وطنٍ يرى في الثقافة ركنًا أصيلًا من ملامح مستقبله.

الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال