الكسوة الشريفة: مئة عام من الرعاية السعودية لبيت الله الحرام
ليس من مقامٍ أعظم، ولا من شرفٍ أجلّ، من رعاية الكعبة المشرَّفة، فذلك مقامٌ لا يُدركه المجد، واصطفاء ربَّاني لمن شاءت له الأقدار أن يكون خادمًا لبيته العتيق، يُجدد كسوتها كل عام، في مشهدٍ يتعاقب فيه الشرف مع الخشوع، وتلتقي فيه الصنعة بالجمال.
وفي تاريخ المملكة العربية السعودية، لا تكاد توجد مهمة حملت من الإجلال والرمزية الدينية ما حملته رعاية كسوة الكعبة المشرفة، فهي ليست مجرّد صناعة موسمية، بل عهد متجدد يُخاط بخيوط التوحيد، وتُطبع عليه بصمة العز والسؤدد، وتُجسّد فيه الدولة مكانتها بوصفها خادمة للحرمين الشريفين.
بدأت هذه العناية في عهد جلالة الملك المؤسس -طيب الله ثراه، حين دخل مكة المكرمة في جمادى الأولى عام ١٣٤٣هـ، وعزَّ عليه رؤية كسوة الكعبة تُستجلَب من الآفاق، وتخضع للتقلبات السياسية والأمزجة الملوكية، فقرر بعد موسم حج عام ١٣٤٥هـ، أن تنسج الكسوة في مكة المكرمة، بجوار البيت الحرام، فأسند لابنه فيصل تأسيس أول دار لصناعة الكسوة بمكة مطلع عام ١٣٤٦هـ، يعاونه وزيره ابن سليمان.
وتم استجلاب أرقى ماكينات النسيج لها، واستُقدِم فنيون من الهند من ذوي الخبرة الطويلة في صناعة الحرير والتطريز، بل أُرسل وفد سعودي خاص برئاسة الشيخ إسماعيل الغزنوي لاختيار الخيوط، والألوان، وموديلات الزخارف من مصانع الهند، ليصنعوا أول كسوة شريفة تُنسج في الأراضي السعودية. وفي غضون أشهر معدودة، تم تجهيز الأستار ونسج أكثر من ٦٠٠ متر من القماش الحريري، وتطريز الأحزمة والقناديل بخيوط الفضة والذهب، لتُكسى بها الكعبة المشرفة لأول مرة بصناعة مكية محلية.
وحين تم الانتهاء من أول ثوب لكسوة الكعبة المشرّفة، أقام الملك عبدالعزيز حفلًا مهيبًا بهذه المناسبة، ضم الوجهاء والعلماء ورجال الحجاز والوفود من الحرمين، جاء بمثابة إعلان رمزي بأن المملكة قد تولّت رسميًا شرف "كسوة البيت".
لم تتوقف عناية الملك عبدالعزيز المؤسس عند هذه المحطة، بل أمر بتغيير الكسوة الداخلية للكعبة المشرّفة مرتين أثناء حياته، عاميْ ١٣٥٥هـ و١٣٦٢هـ، وكانت آخر مرة غُيّرت فيها عام ١٢٨٠هـ، أي قبل دخوله مكة بنحو ٦٣ عامًا. والكسوة الداخلية كما لا يخفى تمثل مظهرًا من مظاهر التعظيم والإجلال للبيت الحرام.
ثم سار أبناؤه الملوك على دربه، فتتابعت أوامر التغيير والتطوير، فصُنعت أول كسوة للكعبة المشرّفة بتدخل الآلات عام ١٣٨٥هـ، وأمر الملك فيصل بإنشاء مصنع كسوة الكعبة المشرّفة في حي "أم الجود"، وانتهى في عهد الملك خالد عام ١٣٩٧هـ، ويعمل فيه مئات الفنيين والإداريين والخطاطين، في منظومة إنتاج دقيقة تمر بأكثر من عشر مراحل تبدأ من صباغة الحرير، ولا تنتهي إلا بخياطة الحزام.
وفي عام ١٤٣٨هـ، أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- بتغيير اسم المصنع إلى: "مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرَّفة"، ليحمل اسم الملك المؤسّس وباني أول دار للكسوة بمكة المكرمة، في رمزية عالية الدلالة، وبِرٍّ غير مستغرَب، من تليد الملوك وحفيد الأئمة.
اليوم نشهد ذكرى مرور أكثر من مئة عام على أول كسوة سعودية تُنسج في مكة المكرمة، بمصنع أنشأه الملك المؤسس ليبقى شاهدًا على رسالة المملكة في خدمة الحرمين.
وما بين حرير كشميري نُسج عام ١٣٤٦هـ، وأحدث خطوط الإنتاج الرقمية في مجمع الملك عبدالعزيز اليوم (١٤٤٦هـ)، تظل الكسوة الشريفة خيطًا يربط الأرض بالسماء، والتاريخ بالحاضر، والمملكة العربية السعودية بالعالم الإسلامي بأسره، ولقبًا يشرف بحمله سلمانُ بن عبدالعزيز خادمًا للحرمين الشريفين.
تعليقات
إرسال تعليق