من الشعر إلى السياسة الثقافية: كيف عرّفت تركمانستان بشاعرها للعالم؟
قبل منتصف القرن الثامن عشر، وُلد الشاعر الحكيم مَخدوم قُولي فراغي عام ١٧٢٤م في إقليم خراسان التاريخي، وتحديدًا في قرية "حاجي كوشان"، التي تقع اليوم في محافظة كلستان، شمال إيران، قرب الحدود التركمانية.
لم تكن تركمانستان الحديثة قد وُجدت بعد، بل كانت الشعوب التركمانية تتوزع بين الأراضي الإيرانية والشعوب المحلية في آسيا الوسطى، ولم تدخل تركمانستان رسميًا في فلك الإمبراطورية الروسية القيصرية إلا في أواخر القرن التاسع عشر (١٨٨١م)، ثم أصبحت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي عام ١٩٢٥م.
لكن رغم تعاقب القوى، ظل اسم مَخدوم قُولي يتردد في المجالس والأسواق والبيوت، بوصفه الشاعر المؤسس للهُوية التركمانية، وصوت الإنسان التركماني قبل أن يكون هناك كيان سياسي يمثّله. كان شعره مزيجًا من الحكمة الصوفية، والالتزام الاجتماعي، والميل الفلسفي، وقد كتب بالتركمانية ذات الحرف العربي، في زمن كان فيه الأدب يُنتَج غالبًا بالعربية أو الفارسية أو التركية العثمانية، ما حدا بكثير من الباحثين إلى عدِّه "ضمير الأمة التركمانية"، إذ استطاع بكلماته أن يصوغ هوية وطنية/قومية سابقة للزمن السياسي، صنع بها للتركمان لغتهم الأدبية الموحَّدة، وشخصيتهم الثقافية الجامعة.
ولم يكن هذا الاعتراف بشعره وتاريخه محصورًا في عصر الاستقلال الحديث، بل بدأ مبكرًا في الحقبة السوفيتية. فقد أصدر الاتحاد السوفيتي ذو القوميات المتعددة طابعًا بريديًا باسمه عام ١٩٥٩م بمناسبة مرور ٢٢٥ عامًا على ميلاده، ثم أصدر طابعًا آخر عام ١٩٨٣م في الذكرى ٢٥٠، وهي إشارة رفيعة إلى الاعتراف الثقافي بشاعر قومي في دولة اشتراكية ذات طابع أممي.
وبعد استقلال تركمانستان عام ١٩٩١م، بدأ التفكير الجاد في تحويل مَخدوم قُولي إلى رمز ثقافي دولي، ورمز حضاري قادر على تمثيل البلاد في المحافل الإنسانية، فتمت ترجمة ديوانه إلى أكثر من ٤٠ لغة مع الوقت، من بينها الفارسية، والتركية الحديثة، والفرنسية، والإنجليزية، والصينية، والعربية مؤخرًا، فضلًا عن اللغات المحلية في آسيا الوسطى. وصدر عنه عشرات الكتب والدراسات الأكاديمية. كما نظّمت البلاد عبر وزارة الثقافة وأكاديمية العلوم التركمانية عشرات الفعاليات في آسيا الوسطى والبلقان والعالم التركي.
وفي عام ٢٠١٤م، أعلنت منظمة TURKSOY تخصيص ذلك العام ب"عام مخدوم قولي" بمناسبة مرور ٢٩٠ عامًا على ميلاده، وشهدت العاصمة عشق آباد ومعها إسطنبول وطهران وباكو أنشطة احتفالية ضخمة. سبقها بأعوام (٢٠٠٧م) تشييد إيران ضريح ضخم لقبر الشاعر، تقديرًا لإسهاماته الأدبية.
خليجيًا، بدأت تركمانستان بتفعيل سياستها الثقافية لتعريف العالم العربي بمخدوم قولي كرمزٍ فوق قومي، فكانت البداية من المشرق والخليج العربي.
ففي الإمارات العربية المتحدة، وتحديدًا في إمارة دبي، نظّم مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث ندوة بعنوان "شاعر وحدة التركمان" في نوفمبر ٢٠١٢م، ولا غرابة في ذلك، فمركز جمعة الماجد هو أول مركز عربي يوقع اتفاقية شراكة مع معهد المخطوطات التركمانية عام ٢٠٠٧م، ومؤسسه الشيخ جمعة الماجد أول شخصية ثقافية عربية نالت وسام تركمانستان (مخدوم قولي فراغي)، لإسهامه في نشر التراث والثقافة التركمانية عام ٢٠١٤م، وهو نفس العام الذي نظّمت فيه إمارة الشارقة فعاليات "عام مخدوم قولي" عام ٢٠١٤م، في إطار الشراكة بين تركمانستان ومنظمة TURKSOY.
وفي قطر، أقيمت في يناير ٢٠٢٤م أمسية رسمية تكريمية بتنظيم وزارة الثقافة القطرية، وحضور وفد ثقافي تركماني، بعنوان "مخدوم قولي.. شاعر الإنسانية وصوت الحكمة في آسيا الوسطى".
أما في السعودية، فقد بلغ هذا المسار ذروته باحتضان دارة الملك عبدالعزيز ندوة بعنوان "التمسك بالهوية الحضارية والذاكرة التاريخية في شعر مخدوم قولي"، كما نظّم مركز البحوث والتواصل المعرفي في الرياض لقاءً علميًا، تلقيتُ شرف حضوره بدعوة كريمة من سعادة الأستاذ الدكتور يحيى بن جنيد، حيث جرى تدشين كتاب من تأليف فخامة رئيس جمهورية تركمانستان السيد سردار بيردي محمدوف، حمل عنوان "مخدوم قولي.. مفكر العالم"، وقد حضر المناسبة سعادة سفير تركمانستان السيد أوراز محمد تشاريف، وسعادة رئيس أكاديمية العلوم التركمانية الدكتور ألابيردي أشيروف، وهي أعلى مؤسسة علمية بحثية في تركمانستان، تمارس نشاطها العلمي منذ عام ١٩٥١م، ويتبع لها معهد مخطوطات مخدوم قولي للغة والآداب والمخطوطات الوطنية كمؤسسة حية ترعى التراث، وتبذل جهودًا هائلة في توثيق المخطوطات، وفهرستها، وترميمها. ويضم المعهد أكثر من أربعة آلاف مخطوط عربي، وستة آلاف مخطوط فارسي وعثماني. وقد سبق لدارة الملك عبدالعزيز أن نظّمت ندوة علمية العام الماضي حول "المخطوطات العربية في تركمانستان" شارك فيها العلّامة ابن جنيد. ويتولى إدارة المعهد المذكور الأستاذ الدكتور داوود أورازساحدوف، ويعاونه السكرتير العلمي للمعهد الدكتور كاكاجان جانبيكوف.
ختامًا،
ما يلفت النظر في هذه التجربة التركمانية أنها استطاعت أن توظّف كافة أدوات السياسة الثقافية لتعريف العالم بشاعرها من خلال جميع ما ذكر، ومن خلال إدراج ذكرى ميلاده الـ٣٠٠ ضمن التواريخ العالمية التي تحتفي بها منظمة اليونسكو عام ٢٠٢٤م، وهو أعلى اعتراف دولي يُمنح لشخصية ثقافية في العالم.
إن تجربة تركمانستان مع شاعرها مخدوم قولي تقدم درسًا في الوفاء للرمز الثقافي الوطني، وتسويق الهوية عبر الأدب، بصفته مشروعًا وطنيًا طويل المدى.
ولعلنا نتساءل اليوم: كم شاعرًا في عالمنا العربي يستحق هذا النوع من الاحتفاء؟ وكم دولةً تعاملت مع أدبها كجزء من مستقبلها، لا بوصفه تراثًا ساكنًا، بل مشروعًا ثقافيًا فاعلًا؟
تعليقات
إرسال تعليق