شريط المقالات

تحوّلات القيم من منظور مفكّري اليونسكو (١٩٤٥-٢٠٠٥م)

 


تحوّلات القيم من منظور مفكّري اليونسكو (١٩٤٥-٢٠٠٥م)


منذ تأسيسها عام ١٩٤٥م، لم تكن منظمة اليونسكو مجرد هيئة تعليمية أو ثقافية، بل كانت تُدرك -من خلال ميثاقها التأسيسي- أن السلام يبدأ من داخل الإنسان، من منظومته القيمية بعد أن تجرع ويلات الحروب. لذلك، تبنّت في برامجها مفهومًا شاملًا للثقافة بوصفها أداة لبناء التفاهم بين الشعوب، وهو ما تطلّب مساءلة مستمرة للقيم التي تُبنى عليها الحياة المشتركة.

ورغم أن اليونسكو لم تُصدر وثيقة شاملة أو منشورًا واحدًا يُعرّف رؤيتها في "القيم" بوصفها إطارًا موحّدًا لمعرفتها صعوبة التوافق عليه بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، والاختلاف الثقافي بين دول الشمال والجنوب، وما يسمى بدول الأطراف والمركز. ومع ذلك، فإن القيم التي تنطلق منها مبادئها وأعمالها حاضرة في عدد من صكوكها الدولية الأساسية، وأبرزها:

1. دستور اليونسكو (١٩٤٥م): نصّ على أن "السلام يجب أن يُبنى في عقول البشر"، مؤكدًا على قيم: الكرامة الإنسانية، والحرية، والعدالة، والتضامن الفكري والمعنوي، والمساواة في التعليم والثقافة. وهي قيم توافقت عليها دول الأمم المتحدة، لورودها في ميثاقها التأسيسي قبل ذلك بأشهر.

2. توصية ١٩٧٤م بشأن التربية من أجل السلام والتفاهم وحقوق الإنسان: تدعو إلى ترسيخ قيم التسامح، والتعاون، واللاعنف، وحقوق الإنسان من خلال التعليم. ويمكن فهم سياقها بعد أحداث مايو ١٩٦٨م في فرنسا وثورة الطلاب.

3. الإعلان العالمي للتنوع الثقافي (٢٠٠١م): ركّز على قيم: واحترام التنوع، والحوار بين الثقافات، والانفتاح، والتعددية الثقافية بوصفها تراثًا مشتركًا للإنسانية. ولم يكن للإعلان العالمي أن يمرر لولا واحدية القطب بعد تفكك الكتلة الشرقية.

4. الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان (٢٠٠٥م): أكد على: الكرامة، والاستقلالية، والعدالة، والمساواة، والمسؤولية، والتضامن، واحترام الحياة. وهي قيم تم التوكيد عليها في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" عام ١٩٤٨م، لكن الاختلاف في تبني الإعلان المتأخر بعض القيم اللبرالية التي لا تتوافق معها بعض الثقافات. 

كل هذه الوثائق تعبّر عن منظومة قيمية تتفاعل مع التحولات العالمية، وتشكّل الخلفية الأخلاقية لسياسات اليونسكو ومبادراتها. لكن بعد مضي أكثر من نصف قرن على تأسيسها، استشعرت المنظمة أن "القيم" نفسها باتت محل تساؤل: هل هي في طريقها إلى الأفول؟ هل تغيّرت بنيتها؟ هل ما زالت هناك قيم مشتركة يمكن للإنسانية أن تتفاهم من خلالها؟

في هذا السياق، رعت اليونسكو إصدار كتاب جماعي بعنوان: "القيم… إلى أين؟"، نُشر عام ٢٠٠٤م، وضم مجموعة من النصوص الفلسفية لكبار المفكرين من مختلف القارات. الكتاب لا يمثل موقفًا رسميًا لليونسكو، بل هو ثمرة دعوة مفتوحة منها للتفكير الجماعي في مصير القيم، بوصفه سؤالًا إنسانيًا عالميًا، لا حكوميًا أو مؤسساتيًا.

جاءت النصوص بوصفها شهادات فكرية تطرح الإشكال من زوايا متعددة، يمكن تصنيفها إلى أربع مقاربات رئيسية:

أولًا: القيم بوصفها بناء متحوّل.

في هذه المقاربة، يُنظر إلى القيم لا باعتبارها جوهرًا ثابتًا، بل بوصفها كائنًا اجتماعيًا متغيّرًا يتفاعل مع البنى المعرفية والتاريخية. يتضح هذا المسار في المداخلات التي رأت أن القيم الحديثة لا تنهار، بل تُعاد صياغتها وفق منطق العالم المعاصر. القيم التي كانت تصاغ في سياق الدولة القومية، أو في ظل الأديان الكبرى، باتت اليوم تُبنى في فضاءات ما بعد قومية، وفي سياقات التواصل العالمي، وما تتيحه الشبكات من تشكيل جديد للذات والعلاقات. وهي رؤية تتقاطع مع ما طرحه إدغار موران حول الحاجة إلى تعقيد مفاهيمنا بدلًا من اختزالها. 

وهؤلاء قد ينظر إليهم بوصفهم مفكرين يرغبون بتجديد قيم الحداثة بمتطلبات عصرية، أو العكس بتفكيكها من منظور ما بعد حداثي.

ثانيًا: نقد الكونية الأخلاقية.

تُثير هذه المقاربة مسألة الهيمنة الرمزية باسم القيم، وترفض اختزال الكونية في نماذج أخلاقية واحدة. بدلًا من ذلك، تدعو هذه الرؤية إلى تعددية القيم، انطلاقًا من الخصوصيات الثقافية. ليس هناك بالضرورة "انحطاط في القيم"، بل هناك نقدٌ للقيم التي رُفعت إلى مرتبة كونية دون مساءلة، أو تلك التي ارتبطت بمشروع الحداثة الغربية دون نظر في علاقتها بالقوة والمعنى. هذا التصور يجد جذوره في فكر نيتشه الذي شكّك في القيم الموروثة وفي آليات نشأتها، ويتقاطع مع نقد جان بودريار لفكرة القيمة الكونية باعتبارها تعبيرًا عن المركزية الغربية المقنّعة. 

وهؤلاء أفادوا من آليات نيتشه دون مآلات فكره ورؤيته المضادة للفكرة الأخلاقية. أتاحت هذه الرؤية صعود قيم المشرق، وهي قيم في نظر نيتشه تحمل تنوعًا بين قيم القوة في الإسلام التي يكن لها إعجابه، وقيم المسكنة في بعض الأديان والثقافات الشرقية التي يعاديها.

ثالثًا: الحاجة إلى تأصيل جديد.

تذهب بعض المداخلات إلى أن المأزق القيمي المعاصر يكمن في القطيعة بين الفكر والممارسة، وبين الأخلاق والفعل التاريخي. ويأتي التأصيل هنا لا باعتباره استعادة لماضٍ منقرض، بل بوصفه محاولة لبناء جذر إنساني جديد للقيم، يُستمد من النقد، ومن الصدق مع الذات، ومن مراجعة البنى التقليدية التي احتكرت الحق في إنتاج المعنى. في هذا السياق، يحضر تصور طه عبد الرحمن الذي يدعو إلى ربط القيم بالأخلاق المتعالية والصدق الداخلي، كما يتجاوب ذلك مع دعوات بول ريكور إلى تأويل موسّع للقيم من داخل التجربة الأخلاقية للإنسان.

أي أن هؤلاء المفكرين، يرغبون ببناء فكري جديد للقيم من منظور تأويل جديد للأديان الكبرى (الإسلام، والمسيحية) بعد أن استنفدت الحداثة تجربتها القيمية، وأصابها خواءٌ روحي، وانتابها تهميش للإنسان من منظور طبقي/اقتصادي.

رابعًا: القيم بين التنوير وما بعد الحداثة.

تستبطن الكثير من هذه المداخلات قلقًا فلسفيًا إزاء إرث التنوير ذاته، الذي لطالما قُدّمت فيه القيم بوصفها عقلانية وشاملة. غير أن هذا الإرث، الذي جسّده مفكرون أمثال إيمانويل كانط، بدأ يخضع لمراجعة نقدية في ظل تحولات ما بعد الحداثة، التي تُعيد طرح السؤال: هل القيم تُستمد من العقل الكلي، أم من التجربة المتغيرة؟ وهل ما يزال ممكناً الحديث عن "حكم أخلاقي" كوني في عالم تتعدد فيه السرديات والمعايير؟

عن نفسي ما زلتُ أدين بالفضل لكانط، وأحسب أنه أعظم فيلسوف أخلاقي في العصر الحديث، وأقف مدهوشًا إزاء عبقريته الفلسفية التي ولدت أروع أدبيات الفكر الأخلاقي المدني.

ختامًا، 

لا يقدم هذا الكتاب أجوبة نهائية، لكنه يُلزم القارئ بمساءلة عاداته القيمية، وبطرح السؤال من جديد: ما الذي يعنيه أن تكون القيمة إنسانية؟ في زمن لم يعد الإنسان مركزًا للكون بصفته الإنسانية المجرّدة وإنما بانتمائه العرقي (الوهمي) حينًا والطبقي غالبًا !



الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال