في لحظة رمزية فارقة، ألقى الأمير سلمان بن عبدالعزيز -أمير منطقة الرياض حينها- كلمةَ افتتاح "المركز الثقافي الإسلامي بمدريد" في سبتمبر ١٩٩٢م، لم تكن الكلمة مجرد خطاب بروتوكولي بمناسبة دبلوماسية/ثقافية نيابة عن أخيه الملك فهد -رحمه الله- بل كانت بمثابة وثيقة فكرية مُبكِّرة تكشف عن ملامح فلسفته الثقافية، ورؤيته لدور المملكة في بناء جسور التفاهم الإنساني. ولا غَرْو أن تنشأ أول مؤسسة ثقافية مستقلة "الهيئة العامة للثقافة" بعد توليه الحكم بنحو عام ونصف (٢٠١٦م)، خلفتها "وزارة الثقافة" بعد ذلك بعامين (٢٠١٨م).
من خلال تلك الكلمة تتضح ملامح ثقافة سعودية واعية بتاريخها، منفتحة على واقعها، مطمئنة لهويتها، مؤمنة بأن رسالتها تمتد إلى ما وراء الجغرافيا. تضع المملكة في قلب التفاعل الثقافي مع أوروبا بخطاب حضاري يقوم على الحوار والعدل والتسامح.
وقد تضمن الخطاب خمسة مضامين رئيسة، تُشكِّل في مجموعها فلسفة ثقافية متكاملة:
١. الثقافة بوصفها فضاءً إنسانيًا مشتركًا.
أكَّد الأمير سلمان أن الثقافة ليست حكرًا على أمة أو دين أو جغرافيا، بل هي أفق مشترك تلتقي فيه القيم العليا، وتتشكل عبره إنسانية الإنسان.تبدأ رؤيته من توكيد أن الثقافة ليست صراعًا بل سماء تجمع البشر.
“ليس هناك هدف أسمى من تأصيل المعاني الثقافية بين الأمم، أو أرفع من مد الجسور الثقافية بين الشعوب، فالثقافة هي السماء الخالدة التي تظلنا جميعاً بصفائها ونقائها، وهي التي تمنح الإنسان الإطار السليم لقيمه العليا التي تلقاها من الله عز وجل عبر الرسالات السماوية، وبهذا يكون الإنسان إلى جانب أخيه الإنسان للبحث عن الخير كل الخير ولمنع الأذى عن الجميع"
٢. التعددية الثقافية لا تتحقق إلا بالتعاون.
يربط الأمير سلمان بين التعددية والتكامل، فلا معنى لتعدد الثقافات إن لم تؤدِ إلى تعاون فعلي، قيمي وإنساني.فهو يُسقط الرؤية الأحادية ويضع التعاون في قلب المعادلة الثقافية العالمية.
"الثقافة أيها السادة، بعد كوني تعددي لا تتحقق معانيها دون التعاون البشري"
٣. العدالة والتعايش كأساس للسلام الثقافي.
لا يكتفي الخطاب بالحديث عن الثقافة من زاوية التعددية، بل يجعلها مشروطة بمنظومة أخلاقية تقوم على السلام والعدل والتعايش."كما أن الثقافة لا تتجلى بحقائقها دون مظلة السلام والعدل والوئام، فالسلام حق منحه رب العباد ومنذ الأزل لكافة مخلوقاته، والعدل هو أساس التعايش الإنساني الصحيح، والوئام هو حاجة فطرية كي تستقيم الحياة"
٤. التراث المشترك بوصفه أساسًا للتفاهم الإنساني.
استحضار الأندلس ومدنها ليس تذكيرًا بماضٍ عابر، بل استدعاءٌ لمرحلة ازدهار كانت نموذجًا للتعايش الخلَّاق. وهو استدعاء وظيفيٌ لا عاطفي؛ يربط الحاضر الإسباني بالتراث العربي المشترك، ويؤسس لعلاقات تاريخية."الشواهد التاريخية تؤكد لنا أن بناء الإنسانية ومستقبل البشرية ينمو ويترعرع عبر تعاون الشعوب، ومن خلال تلاقح الأفكار الإيجابية بين العقول الناضجة والنفوس المنيرة الطيبة، فهذه هي غرناطة وإشبيلية وقرطبة وطليطلة تطل علينا يوماً بعد يوم شاهدة على عصور الازدهار في وقت كان العالم فيه يعيش في غياهب الظلمات، فانطلقت منها الآداب والعلوم والفنون لترسخ العمد الحقيقية لحضارتنا الحديثة".
٥. المركز الثقافي رمزٌ للوصل بين الماضي والمستقبل.
يختم الأمير سلمان كلمته بربط رمزية المركز الثقافي بالمشروع الحضاري، فهو ليس مجرد مبنى، بل رسالة ثقافية ممتدة. يرى فيه نقطة انطلاق جديدة لإحياء مساهمة العرب والمسلمين في الحضارة العالمية."جئنا اليوم لنضيف لمعالم حضارتنا المشتركة هذا الرمز الثقافي كي يتعانق فيه مجد الماضي وواقع الحاضر وأمل المستقبل، وإنّ أنظارنا تتجه بكل الأمل نحو المستقبل إلى ذلك اليوم الذي تخرج فيه من هذا المكان شخصيات يكون لها أثرها العميق في كافة مجالات الحياة.
وبهذا نعيد من جديد إلى الأذهان والقلوب روح مدينة قرطبة والدور الذي أداه الأندلس خلال قرون ثمانية في بناء الحضارة العالمية، واستعادة الحضارة المشتركة كي تسهم مرة أخرى في مسيرة العالم نحو السلام والعلم والمعرفة"
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه الرسمي لم يكن وليد اللحظة، بل جاء ضمن جهود انطلقت في عهد الملك خوان كارلوس، الذي لعب دورًا محوريًا في التحول الديمقراطي في إسبانيا، وكان أول من أقرّ مبدأ الحرية الدينية عقب إقرار دستور ١٩٧٨م، الذي ضمن "مبدأ حرية الدين والمعتقد". ثم ساهم في توقيع اتفاقيات رسمية مع ممثلي الديانات عام ١٩٩٢م، بعد موافقة البرلمان على الاعتراف بالإسلام ضمن الأديان المعترف بها في البلاد.
كان خطاب مدريد بيانًا ثقافيًا سعوديًا ينظر للعالم بتفاؤل، ويتعامل مع الثقافة بوصفها مسؤولية أخلاقية وجسرًا نحو السلام. قدّم فيه الأمير/الملك سلمان نموذج رجل الدولة الذي لا يتعامل مع الثقافة بوصفها مصدر قلق، بل كقوة ناعمة تُبنى بها الجسور الحضارية والقيم الإنسانية.
إنه خطابٌ عابر للزمن والجغرافيا .. من مدريد إلى الرياض نستذكره اليوم لننعش ذاكرتنا الثقافية لحاضر ومستقبل أكثر تقدمًا وقيمًا.
ختامًا:
أود أن أشكر أخي المتفضل بالبذل والعطاء، سعادة الدكتور عبدالرحمن بن عبدالله العريفي، المستشار والمشرف على مركز الوعي الفكري بوزارة التعليم، على تزويدي بهذه الكلمة التاريخية لمولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، منذ عدة سنوات من موقع اختصاصه الأكاديمي بجمع ودراسة رسائل وكلمات الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وأبنائه الملوك والأمراء.

تعليقات
إرسال تعليق