شريط المقالات

"اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية": دعوة لإحياء مشروع ثقافي لليونسكو لم يُكمل مهمته

 

"اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية": دعوة لإحياء مشروع ثقافي لليونسكو لم يُكمل مهمته

في خضم عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت البشرية تحاول استعادة توازنها الأخلاقي والمعرفي، تأسست في كنف اليونسكو واحدة من أعمق المبادرات الفكرية وأكثرها إنسانية: مشروع "اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية". لم تكن هذه اللجنة مجرّد مبادرة لترجمة كتب الفلسفة والأدب، بل كانت تعبيرًا مؤسسيًا عن إيمانٍ بأن التفاهم بين الشعوب يبدأ بالإنسانيات والفكر الذي يعبر عن الخصوصية العميقة لكل حضارة.

حمل الآباء المؤسسون رؤية ثقافية شاملة تهدف إلى خلق فضاء مشترك للفكر، من خلال الترجمة المتبادلة بين اللغات، في زمنٍ لم تكن فيه التقنيات قد سهّلت التواصل، ولا المؤسسات قد تجرّدت من الحسابات الضيقة، كان هذا المشروع نافذةً نادرة على التنوع البشري، وعلى الاعتراف المتبادل بين الثقافات، مثَّل العرب خير تمثيل؛ الجمهورية اللبنانية ومثقفوها. لبنان يا سادة لم تكن فقط باريس أو سويسرا الشرق بل "فلورنسا الشرق" التي بُعثت منها كلاسيكيات الفكر الإنساني.

ترجمت اللجنة أكثر من ١٣٠٠ عمل من مئة أدب عالمي خلال ٥٧ عامًا (١٩٤٨-٢٠٠٥م). لم تقتصر على الكلاسيكيات الأوروبية، بل سعت إلى أن تجعل من كل لغة وسيطًا يستحق الإصغاء، لا مجرد قناة للنقل. فترجمت من اليابانية إلى الإندونيسية، ومن البمبارية (لغة لشعب يعيش أغلبهم في مالي) إلى الفرنسية، ومن العربية إلى الإنجليزية والإسبانية. ولم تفرض منطق المركزية، بل شرَّعت الباب للهوامش لتروي هي الأخرى ما لديها من حكمة وتجربة وجمال.

بدأ المشروع دوليًا في باريس، ثم تجلّى عربيًا في تأسيس "اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع" عام ١٩٤٨م، بناءً على اتفاق بين منظمة اليونسكو والحكومة اللبنانية. كان هذا أول تجسيد عربي رسمي للانخراط في مشروع ترجمة ثقافي عالمي، شارك فيه نخبة من أعلام الفكر اللبناني والعربي، منهم:

* الدكتور إدمون رباط (رئيس اللجنة)
* الأستاذ فؤاد أفرام البستاني (أمين السر)
* الدكتور جميل صليبا (عضوًا)
* الأستاذ عبدالله المشنوق (عضوًا)

وغيرهم من أساطين الفكر والترجمة العربية كعادل زعيتر وماجد فخري وكمال حاج ... أولئك القوم !

لكنّ المشروع توقف بصمت عام ٢٠٠٥م لأسباب تعود لنقص التمويل، وتغير أولويات اليونسكو، وانسحاب بعض الدول الكبرى في فترات مختلفة، مما أثّر على البرامج الفكرية والإنسانية للمنظمة.
لقد أسهمت اللجنة في إصدار ترجمات عربية لأعمال تُعدّ من أمهات النصوص الفلسفية في العصر الحديث، منها:

١. "روح الشرائع" لمونتسكيو. عام ١٩٥٣م.

٢. "أصل التفاوت بين الناس" لجان جاك روسو عام ١٩٥٤م.

٣. "في السياسة" لأرسطوطاليس. عام ١٩٥٦م.

٤. "المونادولوجيا" لجوتفريد ليبنتز. عام ١٩٥٦م.

٥. "في الحكم المدني" لجون لوك. عام ١٩٥٩م.

كما ترجمت أيضًا لروسو "الاعترافات" و"الهواجس"، ولباسكال "الخواطر"، ولڤولتير "صادق أو القدر".


هذه القائمة ليست مجرد ترجمات، بل تكشف عن خط فكري متّسق: اهتمام الفاعلين في هذا المشروع بترجمة النصوص التأسيسية في الفكر السياسي والأخلاقي الأوروبي، وربطها بأصولها الفلسفية القديمة في الفكر الإغريقي، بل وصل الاهتمام إلى ترجمة نصوص عربية كلاسيكية كما في ترجمة كتاب "أيها الولد" للغزالي، وكتاب "صورة الأرض" لابن حوقل.

اليوم، تبدو الحاجة إلى إعادة بعث هذا المشروع أكثر إلحاحًا لا بسبب قلة الترجمة في العالم العربي، بل لأن ما يُترجم بات في كثير من الأحيان، خاضعًا لمنطق السوق، وموضة الصيحات الثقافية، وما يطلبه المزاج العابر لا العقل المتأمل.
إنّ إعادة إحياء "اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية"، أو إطلاق برنامج مماثل بروح جديدة كمشروع "كرسي اليونسكو لترجمة الثقافات" بمركز الملك فيصل ومبادرة من "هيئة الأدب والنشر والترجمة"، ليس ترفًا ولا حنينًا إلى الماضي، بل ضرورة معرفية وأخلاقية لإعادة بناء الجسور الثقافية العالمية من موقع عربي فاعل، لا من موقع المتلقي فقط. يكفي أن نعرف أنّ أكثر مئة كتاب فلسفي مؤثر لم تترجم بعد للعربية.

لقد أسهم مشروع الروائع الإنسانية في صياغة ذاكرة إنسانية واسعة، ومتعددة الأصوات. وتعطيلها لا يعني فقط إيقاف الترجمة، بل إيقاف المشروع الثقافي الإنساني الذي تأسست عليه اليونسكو نفسها. فالفكر لا ينمو في غرف مغلقة، بل في رحلاته من لسان إلى آخر، ومن عقل إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى. وإذا كانت "الحروب تتولد في عقول البشر" كما كتبت اليونسكو في ديباجة ميثاقها عام ١٩٤٥م، فإن الترجمة الثقافية قد تكون أوّل مسلك لبناء "حصون السلام" كما تقول اليونسكو أيضًا !



الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال