المُتَّشِحون بالخلود: رعاة الطباعة الأوائل في المملكة والجزيرة العربية (١٣٠٧-١٣٧٨هـ)
حين ارتدى الرعاة الورقَ عباءةً للخلود
في غرب الجزيرة العربية، وقبل ظهور مؤسسات النشر بعقود، ظهر رجال موَّلوا طباعة الكتب من أموالهم الخاصة، وفاءً للمعرفة، وانطلاقًا من إيمان ثقافي أصيل. كانوا وجهاء، ووزراء، وعلماء، وأدباء، وصحافيين، وكتبيين .. تركوا علمًا ينتفع به، وأثرًا لا تزال خزائن الكتب تحتفظ بعبيره، ومكانًا ومكانة في سجل الخالدين، هؤلاء هم من أُسميهم: "المُتَّشِحون بالخلود".
١. من المطبعة الميرية إلى مطابع الرياض: سبعون عامًا من النشر في الجزيرة العربية.
بدأت الحكاية عام ١٣٠٠هـ بدخول أول مطبعة حكومية إلى مكة: "المطبعة الميرية" وبعد سبع سنوات فقط، صدرت أول طبعة أهلية ممولَّة من تاجر: ديوان ابن المُقرَّب (١٣٠٧هـ) على نفقة الشيخ عبدالله بن سعيد باخطمة، أحد تجار مكة. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى سبعة عقود، تراكمت طبعات أهلية من أفراد معنيين بالثقافة، طبعوا الكتب في مكة وجدة والقاهرة وبغداد ودمشق والرياض.
٢. تنوع غير مسبوق: من التاجر إلى الوزير إلى المؤلِّف.
تكشف قائمة الرعاة عن تنوّع مذهل في الخلفيات الاجتماعية والثقافية، يمكن تحليلها وفق الفئات التالية:
أ. التجار.
كالشيخ عبدالله بن سعيد باخطمة والحاج عمر الميمني من مكة، والوجيه الشيخ عبدالرحمن بن حسن القصيبي (من أعيان الأحساء، والد الوزير د.غازي القصيبي)، ومحمد سعيد فدا (من أعيان جدة).
ب. أصحاب المكتبات.
كالشيخ عبدالقادر بن عبدالغفار الكتبي والوجيه محمد ماجد الكردي (صاحب المطبعة الماجدية) والشيخ عمر الكتبي من مكة، وعبدالمحسن بن عثمان أبابطين، (صاحب المكتبة الأهلية) بالرياض، والشيخ الوجيه محمد حسين نصيف.
ج. الوزراء ورجال الدولة.
كالمعالي عبدالله السليمان الحمدان (أول وزير مالية)، والمعالي محمد سرور صبّان (وزير المالية كذلك)، والمعالي عبدالرحمن بن عبدالمحسن الطبيشي (رئيس شعبة الخاصة الملكية في عهد الملك عبدالعزيز)، وصاحب السعادة رشيد باشا بن ليلى (وكيل الملك عبدالعزيز في دمشق)، والشيخ فوزان السابق (وكيل الملك في القاهرة). كانوا فعلًا نموذجًا للمسؤول-المثقف، الذي لا يكتفي بالإدارة بل يرعى المعرفة بطريقته، ويُسهم في صنع الذاكرة الثقافية من موقعه.
د. العلماء والأدباء.
كالشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (العالم الشهير)، والشيخ عبدالعزيز بن محمد الشثري (من علماء نجد، ووالد الشيخ ناصر)، والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز السويل (ابنه إبراهيم وزير الخارجية السعودي)، والأديب عمر عبدالجبار ومحمد سرور صبّان.
هـ. الصحافيون.
كالوجيه الشيخ محمد صالح نصيف (صاحب جريدة بريد الحجاز، وعضو مجلس الشورى)، والصحفي النجدي سليمان الدخيل (صاحب جريدة الرياض).
٣. الطباعة خارج الجزيرة العربية: توسّع نحو بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة.
اتسعت -مع مرور الزمن- جغرافيا الطباعة الأهلية:
أ. بغداد (١٣٢٨هـ): سليمان الدخيل يطبع "عنوان المجد" بمطبعة الشابندر.
ب. بيروت (١٣٣٠هـ): الوجيه عبدالكريم الخطيب، يطبع "إقناع النفوس" بالمطبعة الأهلية.
ج. دمشق (١٣٣٣-١٣٤٢هـ): رشيد باشا بن ليلى يطبع "تقويم الأبدان" بمطبعة روضة الشام، والشيخ محمد بن عبدالله القرعاوي يطبع "البدرانية" بمطبعة المكتبة السلفية.
د. القاهرة (١٣٣٢–١٣٧٢هـ): عشرات الطبعات الممولة من سعوديين، مثل عبدالقادر الكتبي، ومحمد صالح نصيف، ومحمد سرور صبّان، وفوزان السابق، وغيرهم.
٤.تحليل العناوين: تنوع موضوعي يعكس مزاج النخبة.
عند تحليل محتوى الكتب المطبوعة، نلحظ تنوّعًا كبيرًا في الموضوعات:
أ. كتب عقدية وفقهية.
(الزواجر، شرح منتهى الإرادات، البدرانية).
ب. كتب الحديث ومصطلحه.
(علل الحديث، اختصار علوم الحديث).
ج. كتب أدبية وتاريخية.
(ديوان ابن المقرب، عنوان المجد، الأدب الشعبي).
د. كتب فكرية.
(خواطر مصرحة).
هـ. كتب طبية.
(تقويم الأبدان بتدبير الإنسان).
إن ما تكشفه هذه الطبعات ليس مجرد تاريخ للنشر، بل نموذج ثقافي سعودي فريد في ملامحه ومضامينه؛ إذ لم يكن قائمًا على المؤسسات الرسمية فحسب، بل من أفراد رأوا في رعاية الكتاب فعلاً حضاريًا مستقلًا. لم يكن هذا الحراك نخبويًا مغلقًا، بل تشارك فيه التاجر والعالم والوزير والمثقف.
"السجل الذهبي للمُتَّشِحين بالخلود"
في ضوء هذا الإرث الثقافي المضيء، نقترح إطلاق مبادرة ثقافية وطنية لرعاة الكتب والطباعة، تهدف إلى إحياء تقليد الطباعة الأهلية عبر تشجيع ودعم وتوثيق الأفراد الذين يطبعون كتبًا علمية أو تراثية أو فكرية على نفقتهم الخاصة، كما فعل الأسلاف من وجهاء الجزيرة العربية في القرن الرابع عشر الهجري.
تقوم المبادرة على:
١. جمع وتوثيق رعايات طباعة الكتب.
٢. تقديم دعم إعلامي للمبادرات الفردية في النشر.
٣. إصدار سجل دوري يُخلّد أسماء الرعاة في الذاكرة الثقافية.
تنويه مهم:
سنخصّص مقالة مستقلة للحديث عن الكتب التي طبعها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- على نفقته الخاصة، وهي تتجاوز المئة كتاب، كما سنتناول فيها الكتب التي رعاها إخوته وأبناؤه الملوك والأمراء، نظرًا لضخامتها وأهمية استقلالها.
قائمة أولية بالكتب التي طبعت على نفقة الوجهاء والعلماء والأمراء والوزراء والأدباء وغيرهم في الجزيرة العربية وخارجها:
١/ كتاب "ديوان ابن المقرب" عام ١٣٠٧هـ على نفقة الشيخ عبدالله بن سعيد باخطمة، أحد تجار مكة، بالمطبعة الميرية بمكة.
٢/ كتاب "صلح الجماعتين بجواز تعدد الجمعتين" عام ١٣١٢هـ على نفقة المكرم محمد ماجد الكردي (صاحب المطبعة الماجدية، وعضو مجلس الشورى لاحقًا)، بالمطبعة الميرية بمكة.
٣/ كتاب "مسلك السادات إلى سبيل الدعوات" عام ١٣٢٢هـ على نفقة الشيخ عمر الكتبي في باب السلام (صاحب مكتبة)، بالمطبعة الميرية بمكة.
٤/ كتاب "أسنى المطالب في مناقب سيدنا علي بن أبي طالب" عام ١٣٢٤هـ على نفقة الحاج عمر الميمني والشيخ أحمد المكي، بالمطبعة الميرية بمكة.
٥/ كتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" عام ١٣٢٨هـ على نفقة الصحفي النجدي سليمان الدخيل (مدير جريدة الرياض)، بمطبعة الشابندر ببغداد.
٦/ كتاب "إقناع النفوس بإلحاق أوراق الأنوات بعملة الفلوس" عام ١٣٣٠هـ على نفقة الوجيه عبدالكريم الخطيب، كان أخوه وزير الخارجية لدى الشريف حسين، بالمطبعة الأهلية ببيروت.
٧/ كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" عام ١٣٣٢هـ على الشيخ عبدالقادر بن عبدالغفار الكتبي المكي (صاحب مكتبة)، بدار الكتب العربية الكبرى بالقاهرة.
٨/ كتاب "تقويم الأبدان" عام ١٣٣٣هـ على نفقة صاحب السعادة رشيد باشا ابن ليلى (أول وكيل لاحقًا للملك عبدالعزيز في دمشق)، بمطبعة روضة الشام بدمشق.
٩/ كتاب "البدرانية شرح المنظومة الفارضية" عام ١٣٤٢هـ على نفقة محمد بن عبدالله القرعاوي، بمطبعة المكتبة السلفية بدمشق.
١٠/ كتاب "علل الحديث" عام ١٣٤٣هـ على نفقة الوجيه الشيخ محمد صالح نصيف (صاحب جريدة بريد الحجاز، وعضو مجلس الشورى) بالمطبعة السلفية بالقاهرة.
١١/ كتاب "منح الشفا الشافيات" عام ١٣٤٣هـ على نفقة المحسن الكريم الشيخ عبدالرحمن بن حسن القصيبي (التاجر المعروف والد د.غازي)، بالمطبعة السلفية بالقاهرة.
١٢/ كتاب "خواطر مصرحة" عام ١٣٤٥هـ على نفقة الشيخ محمد سرور صبان (وزير المالية لاحقًا)، بالمطبعة العربية بالقاهرة.
١٣/ كتاب "قرة عيون الموحدين" عام ١٣٤٥هـ على نفقة الأديب عمر عبدالجبار، بدار مصر للطباعة بالقاهرة.
١٤/ كتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" عام ١٣٤٩هـ على نفقة الشيخ الوجيه محمد حسين نصيف (أحد العلماء)، بالمطبعة السلفية بمكة.
١٥/ كتاب "القواعد في الفقه" عام ١٣٥٢هـ على نفقة الشيخ فوزان السابق (المفوض السعودي بالقاهرة)، بمكتبة الخانجي بالقاهرة.
١٦/ كتاب "اختصار علوم الحديث" عام ١٣٥٣هـ على نفقة الوجيه محمد سعيد فدا وإخوانه، بالمطبعة الماجدية.
١٧/ كتاب "الدرة المختصرة" عام ١٣٦٦هـ على نفقة مؤلفه الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، بمطبعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة.
١٨/ كتاب "شرح منتهى الإرادات" عام ١٣٦٦هـ على نفقة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز السويل (ابنه إبراهيم وزير الخارجية السعودي)، بمطبعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة.
١٩/ كتاب "إبطال التنديد" عام ١٣٦٧هـ على نفقة الوجيه عبدالمحسن بن عثمان أبابطين (صاحب المكتبة الأهلية بالرياض)، بمطبعة الإمام بالقاهرة.
٢٠/ كتاب "العذب الفائض" عام ١٣٧٢هـ على نفقة صاحب المعالي عبدالرحمن بن عبدالمحسن الطبيشي (رئيس شعبة الخاصة الملكية)، بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة.
٢١/ كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" عام ١٣٧٥هـ على نفقة حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن محمد الشثري، بمطابع الرياض، وهو أول كتاب يطبع على نفقة شخص في الرياض.
٢٢/ كتاب "الأدب الشعبي في جزيرة العرب" عام ١٣٧٨هـ صاحب المعالي عبدالله السليمان الحمدان (وزير المالية)، بمطابع الرياض.
تعليقات
إرسال تعليق