الوقف الثقافي: من تقاليد الحضارة العربية الإسلامية إلى حاجة المؤسسات الثقافية السعودية
في ذاكرة الحضارة الإسلامية، لم تكن المكتبات مجرد أماكن لحفظ الكتب، بل كانت مؤسسات وقفية متكاملة، فمن بغداد إلى قرطبة، ومن فاس إلى القاهرة، نشأت أعظم المكتبات من خلال أوقاف ثقافية خالدة، جعلت الكتاب حقًّا مشاعًا، والمعرفة مسؤولية اجتماعية.
لقد كان الوقف الثقافي في العصور الإسلامية هو البنية التحتية للمكتبات والمدارس، وهو السبب في بقاء آلاف المخطوطات حيّة إلى اليوم، وهو "النموذج الذي صنع خزائن الكتب الوقفية في أرجاء العالم الإسلامي منذ القرن الرابع الهجري، لدرجة أننا قلما نجد مدينة تخلو من كتب موقوفة" حتى تخلَّى بعض طلاب العلم عن شراء الكتب لأنهم يستعيرونها من خزائن الأوقاف.
وقد أشار أستاذنا ابن جنيد في كتابه القيّم "الوقف وبنية المكتبة العربية" أن أول إشارة لوقف معرفي في الإسلام، كانت في مكة المكرمة مع عبد الحكم الجُمَحي، حيث أنشأ في داره مكانًا خاصًا لحفظ الكتب. ومما جاء في الخبر أن البيت يحتوي على "شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتاداً؛ فمن جاء علّق ثيابه على وتدٍ منها ثم جرَّ دفتراً فقرأه، أو بعض ما يلعب به، فلعب به مع بعضهم". واشتمل الخبر كذلك على مشروعية الوقف الترفيهي !
أمّا أول مكتبة وقفية في الإسلام، فهي "دار العلم" في الموصل، وصاحب الفضل في إنشائها هو أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان في نهاية القرن الثالث الهجري. و"جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفًا على كل طالب للعلم لا يُمنع أحد من دخولها".
ومع تطور مفهوم الدولة الحديثة، انكمش الوعي بالوقف الثقافي، وضعُفت آلياته، وغابت البنية الوقفية عن كثير من المؤسسات المعرفية، لتحل محلها ميزانيات سنوية متقلبة أو إعانات مؤقتة.
ليس الحديث هنا عن دعم طباعة كتاب أو إقامة معرض، بل عن مأسسة الوقف الثقافي بوصفه قاعدة استراتيجية لإحياء المكتبات، ودعم المحتوى، وحفظ الوثائق، وتمويل الرقمنة، وتمكين الكفاءات المحلية في مجالات التراث، والتحقيق، والتوثيق.
اليوم، وبعد قرون، تعود المملكة العربية السعودية لتقف على مفترق طرق ثقافية: بين امتلاك الإرث، وصناعة المستقبل. لقد شهدنا خلال العقود الماضية تأسيس مكتبات كبرى ومراكز بحثية مرموقة في الرياض، وهي تجارب رائدة يمكن أن تُلهم تحوّلًا وقفيًا نوعيًا إذا جرى تثبيتها وتوسيع نطاقها، وهي:
١/ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. ٢/ مكتبة الملك عبدالعزيز العامة. ٣/ مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة.
وخيرًا ما قامت به وزارة الثقافة من توقيعها مذكرة تفاهم مع "الهيئة العامة للأوقاف" في ديسمبر ٢٠٢٤م، اشتملت على "تعزيز التعاون بين الطرفين في عدة مجالات، من أبرزها تطوير السياسات والإجراءات للأوقاف الثقافية بما يتماشى مع احتياجات القطاع الثقافي، ودراسة تعزيز الاستدامة المالية للأوقاف الثقافية، إلى جانب المساهمة في إنشاء منتجات وقفية لدعم الحفاظ على الأصول الثقافية الوطنية والإرث الإسلامي".
إن الثقافة السعودية اليوم بحاجة إلى جيل جديد من الأوقاف، مثل: ١/ وقفية للكتب والمخطوطات. ٢/ وقفية للترجمة والتحقيق والنشر. ٣/ وقفية رقمية لرقمنة التراث وإتاحته. ٤/ وقفية مهنية لتوظيف المفهرسين والمبرمجين.
إن الوقف الثقافي ليس ترفًا فكريًا، بل هو العمق التاريخي للاستدامة المعرفية، والضامن الوحيد لاستمرار الكتاب. ولن تكتمل السيادة الثقافية إلا بـ "استقلال معرفي"، ولن يتحقق هذا الاستقلال إلا بـ "وقف ثقافي" يُؤمّن استمرار المؤسسات حتى حين تصمت الميزانيات.
الوقف الثقافي: من تقاليد الحضارة العربية الإسلامية إلى حاجة المؤسسات الثقافية السعودية
١/ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
٢/ مكتبة الملك عبدالعزيز العامة.
٣/ مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة.
إن الثقافة السعودية اليوم بحاجة إلى جيل جديد من الأوقاف، مثل:
١/ وقفية للكتب والمخطوطات.
٢/ وقفية للترجمة والتحقيق والنشر.
٣/ وقفية رقمية لرقمنة التراث وإتاحته.
٤/ وقفية مهنية لتوظيف المفهرسين والمبرمجين.