لنكمل المسار: من سيُحيي الجسر الفلسفي والأدبي بين أثينا وبغداد؟
في لحظةٍ فارقة من التاريخ، لم تكن أثينا على الضفة المقابلة لبغداد، بل كانت تسكنها. لم تكن المسافة بينهما تُقاس بالأميال، بل كانت تُختصر بجسورٍ من العقل، تُمدّ بالحبر لا بالحجر.
جسورٌ ممتدة عبرها السؤال الفلسفي، والفكر الرياضي، والخيال الأدبي، ليعيد العرب صياغة معنى الإنسان، ويسائلون المعرفة.
عندما اجتمع المترجمون في بيت الحكمة، لم يكونوا مجرد نقلة نصوص، بل صُنّاع فكر وثقافة، ومدوّني فلسفة وحضارة.
وحين ترجمتْ الحضارة العربية الإسلامية تراثَ أعمدة الفكر اليوناني إلى العربية، بعثتْ فيه الحياة والروح فعاش قرونًا وقرونًا، بعد أن كاد يندثر في الأديرة والمدارس، فصار أفلاطون يُقرأ في البصرة، وأرسطو يُدرّس في بغداد، وبطليموس يُفسَّر في قرطبة .. وحين أُغلق هذا الجسر، خسرنا وخسر العالم تفاعلنا الحي معه، وإضافتنا النوعي له.
واليوم، ومع طموحاتنا الثقافية المتجددة، نستطيع أن نعيد لهذا التراث مكانته عبر مشروع رائد يربط الشرق بالغرب، ويبعث الروح في ما ترجم وأُلّف ونُسي أو أُهمل.
في ضوء ما سبق، يمكن أن يتكوّن المشروع الثقافي الشامل لإحياء التراث العربي-اليوناني من خمسة مجالات مركزية:
١. نشر المخطوطات العربية المترجمة من اليونانية.
تضم خزائن التراث العربي ما يقارب من ٣٠٠ كتاب ورسالة نُقلت من اليونانية، كثير منها لم يُحقَّق أو يُنشر حتى اليوم. من الممكن جمعها، وتحقيقها، وإصدارها لأول مرة في موسوعة علمية تحت مسمى: "المترجمات العربية اليونانية في عصر الترجمة الذهبية" في ٢٥ مجلدًا.
٢. نشر مؤلفات المترجمين العرب الأوائل.
في غضون قرنين من الزمن، ألّف المترجمون العرب رسائل فلسفية وطبية وعلمية، تستوعب الموروث اليوناني وتتفوق عليه في مواضع عديدة، وكثير منها لاقى صدى واسعًا لدى المستشرقين والباحثين المعاصرين.
نقترح جمعها، وتحقيقها، وإصدارها في موسوعة بعنوان: "مؤلفات المترجمين العرب الأوائل" في ٣٠ مجلدًا.
٣. ترجمة ما لم يُترجم من النصوص الفلسفية اليونانية.
رغم ترجمة الغرب لكل هذا التراث إلى لغاته القومية، لا تزال بعض النصوص اليونانية الكبرى غير متاحة بالعربية.
ويمكننا ترجمتها من نسخها الأوروبية المعتمدة، واستكمال المشروع الذي كان يحلم به المرحومان طه حسين وعبدالرحمن بدوي. ومن أشهر ما لم يترجم حتى اليوم: "شذرات الفلاسفة السابقين لسقراط" لهيرمان ديلز، في ثلاثة مجلدات.
٤. إطلاق موقع إلكتروني دولي مفتوح.
يضم جميع المخطوطات العربية-اليونانية المحفوظة في مكتبات العالم، ويُتاح للباحثين والطلاب عبر شراكات دولية، في مقدمتها اليونسكو.
٥. إنتاج أعمال وثائقية تسرد قصة الترجمة العربية عن اليونانية، ومن العربية إلى اللاتينية.
تُروى القصة على امتداد جغرافي يبدأ من أثينا وروما، مرورًا ببغداد والقاهرة وإشبيليا، وانتهاءً بفلورنسا وباريس.
كما تُنتج سلسلة من ٣٠ حلقة عن المترجمين العرب: أعلامًا، ومدارس، ومصنفات.
ختامًا، هذا المقترح ليس دعوة للحنين، بل لليقظة. وليس استعادة للماضي، بل لصناعة مستقبل يليق بتاريخنا.
هو نداء مفتوح لكل من يرى أن الترجمة ليست نقلًا للكلمات، بل عبور للوعي، والأزمنة، والثقافات.
فمن سيُعيد تعبيد هذا الطريق؟ ومن سيُكمل المسار؟
*مرفق نماذج من كنوز المكتبة الوطنية اليونانية، تُظهر عناية العرب بالتراث اليوناني الطبي، من مؤلفات جالينوس، وترجمة حُنين بن إسحاق:
١/ كتاب "جوامع الأسطقسات على رأي أبقراط".
٢/ كتاب "جوامع القوى الطبيعية على رأي الإسكندرانيين".
لنكمل المسار: من سيُحيي الجسر الفلسفي والأدبي بين أثينا وبغداد؟
ختامًا، هذا المقترح ليس دعوة للحنين، بل لليقظة.
وليس استعادة للماضي، بل لصناعة مستقبل يليق بتاريخنا.
هو نداء مفتوح لكل من يرى أن الترجمة ليست نقلًا للكلمات، بل عبور للوعي، والأزمنة، والثقافات.
فمن سيُعيد تعبيد هذا الطريق؟
ومن سيُكمل المسار؟