شريط المقالات

مشفى "تطبيب المخطوطات العربية" برقّادة تونس!

 


ليست كل الزيارات الثقافية متشابهة. بعضها يمرّ مرورًا عابرًا، وبعضها الآخر يترك أثرًا لا يُمحى. زيارتي إلى "المخبر الوطني لترميم وصيانة الرقوق والمخطوطات" برقّادة، القريبة من مدينة القيروان، كانت من ذلك النوع الثاني؛ تجربة صامتة، غير مشتهرة في المشرق العربي، ذاتُ وقعٍ عميق.

لم أدخل إلى مؤسسة ترميمٍ تقليدية، بل إلى ما يشبه "مشفى ثقافي" بكل ما تحمله الكلمة من معنى. تتنقل أيديهم بين رقٍ ممزق من القرن الثاني الهجري، ومصحف نادر من عصر الموحدين، غرفة بعد أخرى، بدا لي المكان كمركز لتطبيب الرَّق والورق، تُعالج فيه المخطوطات كما تُعالج الأجساد، ويُعاد إحياء الرقوق التّالفة، المعمَّرة ألف عام أو يزيد، فتخرج وقد استعادت بعضًا من لياقتها التاريخية، وقد رأيتُ ذلك.

يرتبط هذا المشفى المؤسس قبل ثلاثين عامًا (١٩٩٤م) بمكتبات القيروان العتيقة، وعلى رأسها مكتبة جامع عقبة بن نافع، والتي عُرفت قديمًا بـ"بيت الكتب". في إحصاء حديث يعود لعام ٢٠١٨م، سُجّل وجود نحو ٤٠ ألف رقّ داخل هذه المكتبة التاريخية المؤسسة منتصف القرن الثالث الهجري تقديرًا. وهي موزعة بين مجموعة عتيقة تعود إلى منتصف القرن الثالث الهجري، ومجموعة لاحقة -تقدّر بآلاف المخطوطات- تكونت بعد القرن السادس الهجري، ولديهم تحبيسات تشير لذلك.

من بين الكنوز التي تُرمّم وتُصان هناك، مصاحف نادرة جدًا، مثل: المصحف الأزرق، ومصحف الحاضنة، ومصحف أم ملال، وهي نماذج لا تعكس فقط روعة الخط الكوفي والقيرواني أو تقنيات التذهيب، بل روح التعبد بالجمال للخالق -عز وجل- .

خرجت من هذه الزيارة وأنا أستعيد في ذهني مبادرات "إنقاذ التراث الثقافي" لا من الحروب وحسب بل من آفات الزمان، ففي زمنٍ تتآكل فيه المعاني باسم ما بعد الحداثة، فإن أمثال هذا المخبر يذكرنا بأن الاعتناء بما مضى ليس نقيضًا للتقدّم، بل هو من شروط نهضتنا وحداثتنا العربية.

لا يمكن أن اختم هذه الزيارة دون تقديم شكرٍ صادق للدكتورة منال الرّماح، مديرة هذا المشفى وباحثته الأساسية، التي استقبلتنا بودّ وحفاوة، وشرحت لنا بتأنٍ وعُمق -مع فريقها المثابر والمُجدّ- كيف تُعالَج الرقوق، وتُصان المخطوطات. كانت كلماتها دقيقة من غير تكلّف، علمية دون تعقيد، مرجعية بأبحاث موثّقة. ومن هذا المزج تولّد حوارٌ ممتع بيننا، خرجنا منه بفهم أوسع لدور الترميم في حماية الذاكرة العربية، وضرورة تسجيلها في "سجل ذاكرة العالم". فشكراً لها على ما منحتنا من وقتها، وعلى ما تمنحه للمخطوطات من حياة ثانية. ففي هذا المشفى، لا يُسعف الرق والورق فقط، بل يُنقذ التاريخ. وأحسب أن مخبر رقّادة سيفاجئ العالم برقرق حجازية تعود لنهاية القرن الأول الهجري بين ثنايا مخبّآته !

ولإسداء المعروف لأهله، لم يكن لهذه الزيارة أن تتم لولا تفضل الأستاذين الفاضلين د.محمد التوم و أ.يحيى سبعي علي بالتواصل مع القيمين على التراث الثقافي بمدينة القيروان، فلهم مني جزيل الشكر وعظيم الامتنان.






الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال