شريط المقالات

السعودية وتونس الخضراء: حين يُورق الأخضر على أغصان الثقافة العربية




بعد خمسة عشر عاماً من الغياب، عدتُ إلى تونس التي زرتها أول مرة منتصف عام ٢٠١٠م، وما بين الرحلتين مسافة من الحنين الثقافي والشوق لمعانقة تراثها العربي العتيق في القيروان ورقَّادة، والعربي المعاصر في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة".
قدمت لتونس في إطار رحلة علمية، ولزيارة الدورة التاسعة والثلاثين من معرض تونس الدولي للكتاب، ذاك الحدث الثقافي العربي العريق الذي احتضنته قاعات قصر المعارض بالكرم تحت شعار "نقرأ لنبني".

في هذه الدورة، كان للجناح السعودي حضورٌ مميز، يعكس تنوع وغنى الثقافة السعودية، بمشاركة جهاتٍ عدة مثل وزارة الثقافة، ووزارة التعليم، ووزارة الشؤون الإسلامية، ومجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية. هذا التنوع لم يكن ليظهر بهذا الشكل الرائع لولا الجهود الحثيثة لسعادة الملحق الثقافي الأستاذ يحيى سبعي، الذي أبدع في تقديم صورة حضارية للجناح السعودي، وعمل بتفانٍ لخدمة الزوَّار والمهتمين، مما يعكس التزامه العميق بنشر الثقافة والمعرفة، وتقديم واجب الحفاوة السعودية بصورة تترك انطباعًا لا ينسى، وهو خير خلف لخير سلف؛ أعني لسعادة الدكتور محمد التوم، الذي ما زالت ذكراه الحسنة وحضوره الثقافي الفاعل، ذكرى يتغنى بها من لقيت من المثقفين التونسيين.

لكن ما جعل هذه الزيارة أكثر تميزاً هو اللقاء الذي جمعني والوفد السعودي مع سعادة السفير الدكتور عبدالعزيز بن علي الصقر في منزله أو كما يحب أن يسميه: "بيت السعوديين" في تونس، وهو فضاء خاص حوّله لمجال عمومي، يرحب فيه بالمثقفين والأدباء وغيرهم.
والحقيقة، أن سعادته سفيرٌ بالمعنى الإنساني قبل الدبلوماسي؛ دمث الأخلاق، موطأ الأكناف، حاضرٌ مع الكل بأسمائهم ورسومهم. الحديث معه يفيض ودًا، والجلوس إليه يذكّرنا بما ينبغي أن تكون عليه صورة السفير حين يجسّد قيم وطنه، وقد كان، فغير واحد من المسؤولين وذوي الهيئات في تونس وصفه بذلك.
كما كان يشرف بنفسه على استقبال كبار الزوّار وعامة الحضور المتواجدين من الجانب التونسي دون استثناء أو تضجر، في مشهد يجمع بين كرم الضيافة ووعي الدور الثقافي والدبلوماسي معًا.

ثمّة أشياء في العلاقة بين السعودية وتونس لا تروى في الكتب والأضابير. شيءٌ أقدم، أعمق، وأدفأ. كانت تونس تُعرف قديمًا بإفريقية، وكانت القيروان عاصمة العلم في شمال أفريقيا حتى تخوم القرن الخامس الهجري، وكان بينها وبين الجزيرة العربية صلات علمية، تطورت فنيًا في طراز الخط القيرواني.

وفي العصر الحديث، وقبل أكثر من قرنين، جرت مطارحات علمية بين علماء الجزيرة العربية وعلماء الزيتونة. وفي عصور الاستقلال ترسّخت العلاقات السياسية والثقافية، وتحوّلت إلى شراكة طويلة، كان فيها الأدب والتعليم والبعثات جسورًا بين البلدين، ونفخر في المملكة باستضافتنا مئات الطلاب التونسيين في السنوات القليلة الماضية.

ما بين خُضرة الزيتون ورُواء النخيل، ما بين قرطاج والرياض، تتجدّد الثقافة العربية حين يسقيها الأخضر بمعناه: رمزًا للسلام، والانتماء، والنماء.
نعم، حين يُورق الأخضر على أغصان الثقافة العربية، تنبت فينا معاني الوحدة، وتُزهر روح اللقاء والمحبة.

الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال