قبل أن تجمعني الأقدار الشخصية بمعالي الأستاذ الدكتور محمد ولد أعمر، المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، كانت الأقدار الفكرية قد جمعتني به. فهو ينتمي إلى جيل عربي فريد آخذٌ في التآكل، جيلٌ آمن بالثقافة العربية كركيزة حضارية، ووعاء جامع للهوية، ورسالة أخلاقية تتجاوز الحدود إلى الإنسانية جمعاء.
ينتمي هذا الجيل إلى زمن كانت فيه الثقافة العربية يُنظر إليها بوصفها رسالة لا وظيفة، ومجالًا للارتقاء لا وسيلةً للاستهلاك. ولعل هذا ما جعل الحديث مع معاليه لا يشبه أحاديث المجاملة، بل يأخذ طابعًا وجدانيًا وفكريًا يليق برجل لا تزال القيم تسكن صميم رؤيته.
أما الارتباط الآخر بمعاليه، فهو امتداد لصِلة قديمة لي بالمشهد الثقافي الموريتاني قبل خمسة وعشرين عامًا؛ فقد تفتّحت عيناي العلمية على الأساتذة الموريتانيين (الشناقطة)، تلقيت عنهم القرآن الكريم، وعلوم العربية، في حِلَق متفرقة بين الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة.
وقد تركت تلك العلاقة المعرفية أثرًا عميقًا في تكويني، لا يزال حاضرًا في وجداني ومساري الثقافي حتى اليوم، فأرى كل شنقيطيٍ أستاذي!
عودًا على بدء، ولمن لا يحيط بمعنى أن تكون مديرًا عامًا للألكسو، فالأمر لا يتصل بوظيفة دولية بل بحمل إرث ثقافي يمتد لأكثر من خمسة عقود.
تأسست الألكسو عام ١٩٧٠م تحت مظلة جامعة الدول العربية، وكرّست رسالتها للنهوض بالثقافة والتعليم، وصون اللغة العربية، وحفظ التراث، وتعزيز مكانة الثقافة في وجدان الأمة وصناعة مستقبلها.
قادت المنظمة مئات المشاريع الكبرى في مجالات التربية والبحث العلمي والرقمنة واللغة، واحتضنت خمسة معاهد ومراكز نوعية في القاهرة والخرطوم والرباط ودمشق، وأسهمت في بناء السياسات الثقافية والتعليمية لعشرات الأجيال العربية. وأشرف بانتمائي لهذه المنظمة العريقة من خلال اثنين من معاهدها: معهد المخطوطات العربية، ومعهد البحوث والدراسات العربية.
أقول، شهدت منظمة الألكسو في عهد معاليه، تحولات نوعية اتجهت نحو تحديث أدوات العمل الثقافي، وتوسيع أفقه ليشمل مجالات كانت مهمّشة. وهي تحولات تشابك فيها الإبداع بالسياسة الثقافية، والهوية بالحداثة، واتخذت الثقافة موقعًا فاعلًا في خطاب التنمية، لا تابعًا لها.
ومن بين أبرز هذه المبادرات: منتدى الألكسو للثقافة والفنون، ومشروع تأهيل المتاحف العربية، ودعم الاقتصاد الثقافي والذكاء الاصطناعي، وبرامج الحق الثقافي للفئات المهمّشة، وملتقى الاكتشافات الأثرية، ومؤتمر التراث الثقافي غير المادي، والزيارات الافتراضية للمدن التاريخية، وأخيرًا ملتقى مسارح الأوبرا العربية. إلى جانب جهودٍ موازية في إصدار المجلات والدوريات، وتنسيق ملفات التراث غير المادي المشترك بين الدول العربية.
على أهمية ما سبق من مبادرات ومشاريع، وهي كافية لتخليد تجربة أي إدارة ثقافية، إلا أن ما أراه الإنجاز الأعمق في تجربة معالي الأستاذ الدكتور محمد ولد أعمر، هو حفاظه على قيم الثقافة العربية من الذوبان، وسعيه لإبرازها في مقامٍ حضاري يُحاور الأمم لا ينازعها، ويكاشف العصر دون أن ينكفئ عنه.
لقد بدا مدركًا، على نحوٍ صادق، لمعنى أن تكون عربيًا في القرن الحادي والعشرين:
أن تستلهم تراثك وقيمك العربية منفتحًا فيها على ثقافة الحضارات، متفاعلًا مع قيمها الكونية، وحداثتها الإنسانية.