لم تكن القيروان مدينة تقليدية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية؛ بل كانت إشعاعًا ثقافيًا ومكنزًا للعلماء والأدباء والأطباء في قرون الإسلام الخمسة الأولى، والعاصمة العلمية في المغرب العربي، اعتركت فيها المذاهب الإسلامية، وخرج من انقاضها المذهبُ المالكي منتصرًا، وحق له بما أسدى من مؤلفات ومدونات.
وقد تناثر ما خلّفته تلك المدينة وما جاورها من لقى ومخلفات مادية في فضاءات متعددة على مدى أكثر من ألف عام؛ من صبرة المنصورية إلى رقّادة والقيروان بجامعها الكبير، حتى جاء مشروع حفظ هذا التراث الثقافي وتوثيقه في "المتحف الوطني للحضارة والفنون الإسلامية" برقّادة، الذي افتُتح عام ١٩٨٦م، وأصبح منذئذٍ مرآةً ناطقة بعبقرية إفريقية العربية.
لم يكن مستغربًا أن تختار منظمة الإيسيسكو القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية عام ٢٠٠٩م، تقديرًا لإسهاماتها الحضارية والثقافية. وفي هذا السياق، زار المدير العام للمنظمة، الدكتور سالم المالك، المتحف الوطني مؤخرًا، مؤكدًا أهمية هذا الصرح في حفظ التراث الإسلامي.
ولعلّ من أبرز ما لفت نظري في زيارتي لهذا المتحف العريق تنوع معروضاته الفريدة التي تعكس غنى الحضارة العربية الإسلامية، ومن أبرزها:
١/ الزخارف الخشبية.
من أبواب منقوشة تعود إلى مقصورة المعز بن باديس بالجامع الأعظم، إلى مشربيات منقوشة بدقة هندسية.
٢/ الأواني الخزفية.
تنوعت بين أطباق خزفية منقوشة بخط كوفي، أو مصورة بأشكال حيوانية أو نباتية.
٣/ الخزفيات.
تميزت برسومها النباتية، ورموزها الهندسية، مطبوعة بألوان مختلفة (أخضر، أصفر، أزرق).
٤/ شواهد القبور.
منها ما كُتب بالخط الكوفي لذرية النبي، ومنها ما كُتب باللاتينية لراهب مسيحي، في مشهد يدلّ على التسامح الديني والعيش المشترك.
٥/ المصاحف المبكرة (الرقوق).
أبرزها أكبر مجموعة من المصحف الأزرق المذهّب على رقّ نيلي، ومصحف الحاضنة الشهير.
٦/ تجليد المصاحف.
نماذج من تجليدات قيروانية نادرة، تعود بين القرنين (٤-٦هـ)، منقوشة بزخارف هندسية، وتدل على تطور فن التجليد العربي الإسلامي.
٧/ المسكوكات الإسلامية.
مجموعة من الدنانير والدراهم، صُكت في البصرة والقيروان والأندلس.
ختامًا، لا يسعني إلا أن أعبّر عن بالغ شكري لمديرة المتحف الأستاذة منال الهمّادي على الاستقبال الكريم، وعلى الشرح الوافي منها ومن فريقها العزيز.
ومن هذه التدوينة، أدعو القائمين على التراث الثقافي في الجمهورية التونسية لترشيح مدينة القيروان عاصمة للثقافة العربية في السنوات القادمة، لتسليط الضوء عليها مجددًا، بعد الاحتفاء بها كعاصمة إسلامية قبل نحو عقدين.

تعليقات
إرسال تعليق