نحو مئة عام من المحاضرات الثقافية في المملكة: من منبر جمعية الإسعاف إلى مبادرة الشريك الأدبي
شكّلت المحاضرات والخطب الأدبية أحد أهم أنماط التعبير الثقافي الجديد الوارد للمشرق العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر. وهي ظاهرة تأثرت بتجارب أوروبية سبقتها في فرنسا وبريطانيا منذ منتصف القرن السابع عشر.
فتحت هذه التجربة فضاءً جديدًا للتعبير الثقافي في الحواضر العربية (بيروت، القدس، دمشق)، حيث أمكن للأديب التعبير عن دواخله أمام جمهور راغب بالاستماع إليه، مستكملًا حديثه في المجلات الفكرية الآخذة في الظهور كالجنان، والمقتطف، والمشرق.
ومع بدايات تشكّل المجال الثقافي الحديث في الجزيرة العربية، احتضنت مكة المكرمة في العهد السعودي، أولى هذه الجمعيات الثقافية عام ١٣٥٣هـ / ١٩٣٤م، مع تأسيس جمعية الإسعاف الخيري. ومن أبرز المحاضرات التي أُلقيت فيها، وتجاوز تأثيرها زمانها، محاضرة الأديب حمزة شحاتة: "الرجولة عماد الخلق الفاضل". كما ألقى فيها الأديب محمد شطا، والشيخ أحمد الغزاوي، والأديب إبراهيم فلالي عدة محاضرات، نُشرتْ في كتاب الجمعية.
وتولى رئاسة الجمعية الفخرية الأمير فيصل بن عبدالعزيز، نائب الملك في الحجاز، في إشارة مبكرة إلى تبني الدولة النشاطَ الثقافي.
وفي ظل اتساع رقعة التعليم، وظهور أجيال جديدة من المهتمين بالشأن الثقافي، أصبحت المحاضرة الثقافية بحاجة إلى مظلة أوسع، أكثر تنظيمًا واستدامة من الجمعيات. فجاءت فكرة إنشاء الأندية الأدبية في عام ١٣٩٥هـ / ١٩٧٥م لتلبّي هذه الحاجة، بدعم وتبني من الأمير الراحل فيصل بن فهد بعد اجتماعه بعدد من الأدباء السعوديين.
ومع تدشين أولى الأندية الأدبية في مدن المملكة (الرياض، مكة، المدينة، جدة، الطائف، جازان) بدأت المحاضرات الثقافية تجد مكانها الثابت، لا بوصفها فعالية عابرة، بل نشاطًا أساسيًا في روزنامة كل نادٍ، يدعى لها جمهور واسع، حتى باتت الأندية خلال أكثر من أربعة عقود المنصة الأساسية للقاءات الثقافية في المملكة، قُدمت فيها مئات المحاضرات في الأدب والفكر والنقد، بحضور كثيف وتفاعل حيوي.
ومع اتساع رقعة الوعي الثقافي في المملكة، وتعاظم الاهتمام بالفعل الأدبي في المدن والضواحي على حد سواء، بدا واضحًا أن المشهد لم يعد حكرًا على المدن الكبرى أو المؤسسات التقليدية. وأصبح من الضروري إيجاد آلية تنظيمية مرنة تستجيب لهذا الاحتياج المتزايد، وتكون قادرة على الوصول إلى الأماكن التي لم تكن تدخلها الفعاليات الثقافية سابقًا، سواء في الأطراف أو في الأحياء غير المركزية، أو حتى في القرى الصغيرة التي لا تتوفر فيها بنى تحتية للمؤسسات الثقافية.
من هنا انطلقت فكرة "مبادرة الشريك الأدبي" عام ٢٠٢١م، من هيئة الأدب والنشر والترجمة، بوصفها فضاءً جديدًا يُمكّن المقاهي من الأنشطة الثقافية، بحيث تتحول إلى جزء طبيعي من نمط الحياة اليومية للأفراد، لا نشاطًا موسميًا.
والبارحة، وصلت مبادرةالشريك الأدبيإلى ختام نسختها الرابعة، لتجسد بوضوح انتقال التجربة الثقافية من مركزها التقليدي إلى فضاء مفتوح أكثر اتساعًا، فخلال هذه النسخة وحدها، نُفّذت أكثر من ٥١٦٦ مبادرة، شارك فيها ٨٠ شريكًا أدبيًا بالتعاون مع ٨٣٠ جهة، في ٣٠ مدينة، ووصل عدد زوارها إلى أكثر من ١٠٧٬١٧٢.
كان هذا الحضور اللافت تتويجًا لمسار بدأ بخطبة أدبية في جمعية الإسعاف الخيري قبل نحو مئة عام، ثم واصل طريقه في الأندية الأدبية، وها هو اليوم يعود إلى الناس في أماكنهم، في مشهد يؤكد أن المحاضرة الثقافية في المملكة لم تتراجع، بل اتخذت شكلاً أقرب، وأوسع، وأكثر تفاعلًا.
نحو مئة عام من المحاضرات الثقافية في المملكة: من منبر جمعية الإسعاف إلى مبادرة الشريك الأدبي