شريط المقالات

سبعون عامًا من البيناليات العربية: لماذا كان "بينالي جدة" أصدق تعبيرٍ عن وحدة الفنون الإسلامية وتنوعها؟

منذ انطلاق أول بينالي في العالم العربي بمدينة الفنون الجميلة (الإسكندرية) في يوليو ١٩٥٥م، والفنون الإسلامية تسعى لإيجاد بينالي يُعبّر عن هويتها الثقافية ووحدتها المتنوعة. رغم تعدد البيناليات والفعاليات، ظلّ هناك فراغٌ لم يُملأ، وصوتٌ لم يُسمع بالكامل، حتى جاء "بينالي الفنون الإسلامية” بجدة بنسخته الثانية؛ ليكون ذلك الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، بين التنوع والوحدة.

مع التذكير بنجاح تجربة معرض "وحدة الفن الإسلامي" بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية قبل أربعين عامًا (١٩٨٥م).

في عام ٢٠١٩م، أعلنت اليونسكو يوم ١٨ نوفمبر يومًا عالميًا للفن الإسلامي، بعد تضافر عربي لتسجيله. وفي عام ٢٠٢٠م، تأسست "مؤسسة بينالي الدرعية"، لتكون منصة تُعنى بتنظيم بيناليات تعكس ثراء الفنون الإسلامية والمعاصرة.

أُقيمت النسخة الأولى من بينالي الفنون الإسلامية في جدة عام ٢٠٢٣م تحت عنوان "أول بيت"، تلتها النسخة الثانية في عام ٢٠٢٥م بعنوان "وما بينهما"، لتكون تجربة فريدة من حيث الفكرة، والاتساع الزمني والجغرافي، وتناغم العرض بين القطع التاريخية والمعاصرة. لم يكن البينالي مجرد حاضنة لقطع فنية نادرة، بل كان سردًا بصريًا متماسكًا يُحسن الإصغاء للفن العربي وروح الحضارة الإسلامية؛ بين المخطوطات والتسافير، والخطوط والتذاهيب.

تنوّعت القطع المعروضة بين مخطوطات قرآنية فريدة ك"المصحف الأزرق" و"مصحف الورّاق" القيروانيان، ومصاحف أخرى من شتى الأمصار الإسلامية، وقطع خزفية وزجاجية من بلاد فارس وسمرقند، وكسوة تاريخية ومعاصرة للكعبة المشرفة، وخناجر مرصعة بالأحجار الكريمة، ونقوش فاطمية ومملوكية ومغولية، وأعمال فنية معاصرة تنهل من التراث الإسلامي لتعيد صياغته برؤية حداثية.

لم تتنافر المعروضات، بل ظهرت في أبهى صورة، إذ وُظّفت كل قطعة في سياقها البصري والثقافي، وأُعطيت مساحتها الخاصة لتتكلم بلغتها، مما أتاح للزائر التنقل بين العصور والأقاليم دون أن يفقد لحظات الدهشة والانبهار! ليعيش معنى الجمال واقعًا مجسدًا في هذه المعروضات، ويستشعر عظمة الرجال والنساء الذين صنعوها بإخلاص وتفانٍ منقطع النظير.

أقول من موقع التجربة والمعايشة: زرتُ عددًا من المتاحف المتخصصة في الفن الإسلامي، وطالعتُ عشرات الكتالوجات التي وثّقت نفائس المعارض الفنية والمزادات العالمية للفنون الإسلامية من مخطوطات وزجاجيات وخزفيات ونقوش على الخشب والمعادن والمنسوجات. وكان الملاحظ أن لكل معرض قطعًا محدّدة تُشكّل عنوانه، وتُضفي عليه فرادته، وتجعله مقصدًا عالميًا للزوار.

لكن ما رأيته في "بينالي الفنون الإسلامية" بجدة بدا لي وكأنه أوسع مظلة استوعبت هذا الثراء، وأكبر منصة احتفت بتنوّع الفنون الإسلامية دون إخلال بوحدتها الروحية، فكان مساحة جامعة لما تفرق في المتاحف العالمية والخزائن الخاصة، في تلاقٍ بين الإيمان والجمال.

ختامًا، ما كان لهذا الحسن أن يظهر، لولا توفيق الحق -تجلّى في علياه- ثم الجهود المبذولة من مؤسسة بينالي الدرعية ( Diriyah Biennale Foundation ) بقيادة سمو وزير الثقافة، ومعالي مساعده، والرئيس التنفيذي للمؤسسة، ووكلاء الوزارة المعنيين بالاستراتيجيات والشراكات والتواصل الدولي، والمديرين الفنيين، وجميع العاملين في البينالي، الذين صنعوا من هذا الحدث مساحةً للدهشة، وبيانًا حضاريًا يستحق أن يُروى للأجيال:
"هنا تجسدت عبقرية الصنائع الإسلامية الموروثة والمعاصرة !".

الوسومات (هاشتاغ)الوسومات (هاشتاغ)















الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال