إذا كانت مكتبة إثراء قد مثّلت فضاءً معرفيًا ناضجًا في بنيتها وتصميمها، فإن تجربتها، رغم اكتمالها المعماري، ما زالت تُبقي في الذهن مساحة يمكن أن تُمَلأ بثلاثة عناصر تُسهم في توثيق الذاكرة الثقافية، أشرنا إليها سابقًا.
تلك المساحة التي بدت مؤجلة داخل المكتبة، وجدت لها تعويضًا مُبهرًا حين زرت متحف إثراء، وتحديدًا قاعة المعرض الذي يحمل عنوانًا عبقريًا: “في مديح الفنان الحرفي”.
كنت للتو قدمت من "بينالي الفنون الإسلامية" بجدة، والذي كان غنيًا بتجربته البصرية، متنوعًا في معروضاته، لذا لم تكن توقعاتي لمعرض إثراء مرتفعة. لكن ما وجدته فاق تلك التوقعات، بل شكّل لي مفاجأة فنية ومعرفية، أفدت منها كثيرًا، وأطلعتني على قطع لم يسبق لي الوقوف عليها.
ولعل ما يلفت الانتباه، قبل الدخول إلى المعرض، هو اختيار العنوان نفسه: في مديح الفنان الحرفي.
إنه اختيار عبقري، لا يقدّم الحرفي بوصفه موضوعًا مبتذلًا، بل يضعه في مقام المدح والتأمل الفلسفي، وهو تقليدي نهضوي أوروبي، شاع باستخدام عبارة "في مديح .." بوصفها صيغة لتوجيه النظر إلى ما اُعتيد على إهماله أو الاستخفاف به.
ويكفي أن نتذكّر مثلًا كتاب إيراسموس: "في مديح الحماقة"، والذي كُتب عام 1509م، وترجم مؤخرًا للعربية مرتين.
بدأت جولتي في المعرض من حيث تبتدأ الحضارة العربية الإسلامية: من المصاحف المبكّرة.
كانت المعروضات الأولى مجموعة لرقوق قرآنية نادرة، تنوّعت بين رقوق كوفية من القرن الثاني الهجري من مجموعة آل الصباح، وأخرى شرقية مذهبة بخط المحقق والثلث، وأخرى أندلسية قريبة من مصحف شاطبة، والرق الأزرق القيرواني.
انتقلتُ بعدها إلى عالم السجاد، حيث عُرضت نماذج نادرة من السجاد التركي والمغربي، أندرها سجادة رقعة الشطرنج الدمشقية !
ثم دخلت إلى جناح الخزفيات والبلاطات، حيث تتجاور بلاط قبة الصخرة الملوّن مع خزفيات فاس وقاشان. كانت الزخارف المائية تحاكي أثر التكرار في الفن الإسلامي: تكرار لا يُملّ، بل يوقظ النفس لما لا يرى بل يشعر.
وما إن اجتزت هذا القسم، حتى وقفت أمام قطعة نادرة جدًا: كسوة مقام إبراهيم، وهي القطعة الأولى من نوعها التي أراها للمقام، نسجت في وقت السلطان عبدالمجيد، ولا أعلم هل نسج غيرها أم لا؟ وهي معارة من متحف طارق رجب.
وبالقرب من ذلك، رُكنٌ لأدوات الفلك، أبرزها إسطرلاب أندلسي نحاسي من إشبيلية.
في الزاوية المقابلة، مجموعة من الصحون الخزفية، مرسومة بنقوش آدمية ونباتية، بعضها استُخدم في البيوت، وبعضها الآخر في الطقوس.
واختتمت جولتي عند أحد أكثر الأركان حضورًا: المجلس الدمشقي، معروضًا بكامل زخرفته الخشبية، ونقوشه النباتية والهندسية. لم يكن هذا المجلس مجرد قطعة معمارية منقولة، بل فضاءً حيًّا ينقل روح المجلس الشامي التقليدي في القرن الثامن عشر الميلادي؛ حيث كان النص يُقرأ، والموسيقى تُعزف، والكلمة تُصاغ !
كان ينقصها شدو صنّاجة دمشق أصالة لقصيدة نزار:
هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح
إني أحب... وبعـض الحـب ذباح
حمل المعرض رسالة ثقافية مكتملة:
كان الحرفي المسلم حارسًا للمعنى، لا مجرد صانعٍ لشكل، فالقطعة لم تكن تزين المكان، بل تعمّق حضوره الروحي.
ما قام به متحف
إثراء في هذا المعرض هو إعادة الاعتبار للصنعة كفكر، وللحرفة كتاريخ قابل للتأمل، وللجمال كأداة تواصل بين الأجيال.
خرجت من المعرض وأنا موقن أن التجربة الفنية، حين تُبنى على فكرة ناضجة، يمكنها أن تُعيد تشكيل علاقتنا بالتراث، وتمنح للماضي حضورًا روحيًا وجماليًا ومعرفيًا ليومنا المعاصر.
تعليقات
إرسال تعليق