شريط المقالات

عبدالجليل التميمي: تنهيدة المورسكيين وأنّة المستضعفين

في كل عصر يظهر قدِّيسون في همّهم الأخلاقي، رجالٌ نذروا حياتهم للحقّ دون ضجيج، وسكنوا الهامش ليضيئوا لنا العتمات، أنصفوا أهل القبور بعد فناء أحفاد أحفادهم، سخروا أنفسهم للعدالة التاريخية، واقتصوا من الظالمين وحاكموهم بعد سقوط سلطانهم. جمعوا شتات الروايات المنسية، وبعثوا الأقوال المحيَّدة.

هم صوت من لا صوت له، وهم قناديل الهدى وزينة الدنيا، هم صفوة الأمة، وخلاصتها المعنوية، وهم "الثقافة العضوية" في أسمى تجلياتها الغرامشية.

من هؤلاء النفر الذين قيّضهم الحق لفكرة حقّة، ولفريضة غائبة، المؤرخان الموسوعيان الكبيران الأستاذان الدكتوران محمود إسماعيل من أرض الكنانة، و عبدالجليل التميمي من أرض أفريقية، ولدا في عامين متقاربين (١٩٣٨-١٩٤٠م)، وأصدرا أكثر من مئة كتاب، ودوّنا لنا سيرتهما العلمية. متعهما الله بالصحة والعافية، وختم لهما بالحسنى.
أما إسماعيل (أبو حنفي) فنرجئ الحديث عن نبله لتدوينة أخرى، وأما التميمي فنكتفي بإضاءة جانب واحد من قضاياه المعرفية الأخلاقية. التميمي أحد أبرز من خدم ملف الموريسكيين الأندلسيين في العصر الحديث، حتى صار هذا الملف يُقرأ باسمه، ويُستعاد بفضله.

تعرفت على الدكتور التميمي في أول زيارة لي لتونس عام ٢٠١٠م عن طريق د.عبدالمحسن العصيمي، وما زلت أذكر تلك اللحظات التي كنا نُصغي فيها بانبهار إلى حديثه عن الموريسكيين، وعن الرسائل التي وجهها بنفسه إلى الملك الإسباني خوان كارلوس للمطالبة باعتذار حضاري لما لحق بهؤلاء المظلومين، مثلًا بمثل لاعتذاره لليهود. كان يُرينا الرسائل الجامعية المكتوبة عنهم بالإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية، والعربية، ويحدثنا عن المؤتمرات التي نظمها بلا دعم رسمي.

مرت خمسة عشر عامًا، وعدتُ قبل أيام لزيارته مجددًا. وجدته وقد قارب التسعين، لم تنطفئ نار حماسته. فما يزال التميمي هو التميمي؛ يُنقّب، يُراسل، يُصنّف، يُصدر، يُترجم.

لقد كتب وأعد وأشرف على أكثر من سبعين عملاً علميًا حول الموريسكيين، منها ما صار مراجع لا غنى عنها في جامعات العالم، ومن أبرزها:
١/ الببليوغرافيا العامة للدراسات الموريسكية الأندلسية.
٢/ تراجيديا طرد الموريسكيين من الأندلس.
٣/ علم الموريسكولوجيا: التوجهات والمنهجيات المستقبلية.
٤/ آداب الموريسكيين وتأثيراتهم في تونس وأمريكا اللاتينية.
٥/ الموريسكيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية (تعريب).
٦/ نصوص موريسكية حول الدين والجنس والفكر (بمشاركة باحثين).
٧/ صور الموريسكيين في الآداب والفنون.
٨/ الموريسكيون والبحر الأبيض المتوسط.
٩/ الأبعاد الفكرية والعقائدية في الأدب الألخميادو.
١٠/ دين الموريسكيين الأندلسيين وهويتهم ومصادر وثائقهم.

لكن، ما زادني قربًا من هذا العالِم الجليل، هو حنوه ووفاؤه لأستاذي وصاحبه الأستاذ الدكتور يحيى بن جنيد (أبو حيدر). حين ذكرت له اسم "ابن جنيد"، رأيت في عينيه رقةً اختلطت بالدمع. قال بزفرة: "ابن جنيد رمز من رموز الأمة العربية، وهو رجل استثنائي، وعملة صعبة، وقد ناديت بحصوله على الدكتوراه الفخرية من أعرق الجامعات" واستطرد بامتنان شديد: "ابن جنيد هو الوحيد الذي لبّى دعوتي لترجمة كتاب "الأدب السري لمسلمي أسبانيا الأواخر، ودعاني للتعريف بالكتاب والمؤلفة .. لقد امتدت علاقتي به أكثر من خمسين عامًا، منذ قابلته في مناقشة علمية في جامعة القاهرة عام ١٩٧١م، ولم أرَ منه إلا الكرم والوفاء والعطاء".

وظلّت علاقتهما شاهدةً على عظمة الرجال الذين يُقرّبهم الفكر والعلم، لا المصلحة والانتهازية، متعهما الله بالصحة والعافية.







الأقسام
author-img
د. عبدالرحمن خالد الخنيفر

إستكشاف المزيد

تعليقات

      ليست هناك تعليقات
      إرسال تعليق

        نموذج الاتصال