في قلب العاصمة تونس، وتحديدًا في شارع 9 أفريل، تنتصب المكتبة الوطنية التونسية بوصفها أقدم مكتبة وطنية في المغرب العربي، وواحدة من أعرق مؤسسات حفظ التراث العربي الإسلامي في شمال إفريقيا. تأسست المكتبة سنة ١٨٨٥م، ولا تزال تحتفظ بمكانتها مرجعًا للمخطوطات النادرة والكتب والدوريات الفريدة، وفضاءً للباحثين في شتى حقول المعرفة.
شرفت بزيارتها مؤخرًا -عدة مرات- ضمن إطار زمالتي البحثية في معهد الدومينيكان للدراسات الشرقية بالقاهرة، بحثًا عن مخطوطتين فريدتين في فلسفة الأخلاق العربية. وقد شرفت بلقاء سعادة الأستاذ الدكتور خالد كشير، المدير العام للمكتبة، الذي أغدق علي من وقته الثمين، وأدار حديثًا ماتعًا حول مفخرة الجمهورية التونسية باحتضانها أكبر مجموعة من الرقوق القرآنية المبكرة، وتفضل بإفادات علمية تكشف عن مزية إدارة الباحثين للمكتبات الوطنية. وقد تفضل سعادته بإحالتي إلى قسم المخطوطات، حيث استقبلتني أ. فتحية البرشاني، مسؤولة القسم، بكل ترحاب واهتمام، ومكّنتني من الاطلاع والتصوير بيسر.
دخلت قاعة المخطوطات، فوجدتُها من أوسع القاعات المختصة في المكتبات العربية، تضم خزانتها ما يزيد على ٤٥ ألف مخطوط، تم فهرسة نحو ربعها في أحد عشر مجلدًا، فيما لا يزال الكثير منها ينتظر التكشيف والرقمنة.
لكن ما جعل التجربة أعمق، هو إدراكي بأن هذه المكتبة ليست منفصلة عن جذورها التاريخية. فقد سبقتها قبل أكثر من ألف عام "بيت الكتب" في مقصورة المعز بن باديس بجامع عقبة بن نافع (الجامع العتيق) بالقيروان، والتي تضم نحو ٤٠ ألف رقّ مبكر، وتأسست في منتصف القرن الثالث الهجري، أي بعد عقود يسيرة من تأسيس "بيت الحكمة" في بغداد في عهد هارون الرشيد. وإذا كانت بيت الحكمة قد اندثرت مع اجتياح المغول منتصف القرن السابع الهجري، فإن "بيت الكتب" القيروانية بقيت شاهدًا على استمرارية الوعي التونسي بقيمة الكتاب العربي.
خرجتُ من المكتبة الوطنية التونسية، وأنا أحمل قناعة متجددة: أن المخطوطات لا تُحفظ في الخزائن وحسب، بل في وعي الشعوب والإدارات الثقافية، فما كان لتونس منذ "بيت الكتب" في القيروان وحتى إنشاء مكتبتها الوطنية بتونس اليوم أن تحفظ أكثر من ١٥٠ ألف مخطوط عربي لولا وعيها الثقافي بقيمة المخطوط العربي.
تعليقات
إرسال تعليق