في الرابع من أبريل كل عام، نستحضر تاريخًا حيًّا يتجاوز حدود الورق والحبر؛ نستحضر المخطوط العربي بوصفه أحد أبرز الشواهد على عظمة الثقافة العربية، وعمق التجربة الحضارية للمتحدثين بها من شتى الأجناس والأعراق والأديان.
نحتفي بهذا اليوم لا لأجل التذكّر فقط، بل لنؤكد أن هذا التراث المخطوط ما زال حيًّا في ضميرنا الثقافي، وقادرًا على إلهامنا في مشاريع النهضة والتجديد.
إنّ المخطوط العربي ليس مجرّد أثر قديم، بل هو ذاكرة حيّة، تحمل في طيّاتها أصداء القرون، وسجلات الفكر، ومسالك التأمل، ومحاولات العقل العربي تفسير العالم والطبيعة، ومراكمة المعرفة. في المخطوط العربي تتجاور الفلسفة مع الطب، والرياضيات مع التصوّف، والفلك مع الشريعة، في نسيجٍ علمي متعدّد المشارب، يؤكد سعة العقل العربي ورحابة حضارته.
المؤلفون العرب هم من سطّروا مئات الرسائل وآلاف الأوراق وعشرات الكراريس في المنطق والموسيقى والتنجيم والفلسفة والطبيعة والهندسة والطب والفلك واللغة والصناعات وغيرها. انظر ثبت مؤلفات الكِندي والرازي وثابت بن قُرّة وابن الخمّار وابن مَاشَاءَ الله! لتتحقق من صواب حديثي.
هذا اليوم ليس مجرّد فعالية رمزية، بل هو دعوة صادقة لإحياء مشروع حضاري، يدرك قيمة تراثه، ويتعامل مع مخطوطاته لا بوصفها ذخائر محفوظة في الرفوف، بل كبذور معرفية تنبت في حقول الحاضر والمستقبل. وما يدعو للفخر أنّ كثيراً من المراكز البحثية والمؤسسات العلمية والمكتبات الوطنية في عالمنا العربي تتفاعل مع هذا اليوم، وتبادر إلى تنظيم فعاليات نوعية تستثمر المخطوط وتعيد إبرازه في صور حديثة؛ من التحقيق العلمي الرصين وفق الأصول الخطية المكتشفة حديثًا، إلى الرقمنة، والعروض المتحفية، وحتى استلهامه في مناهج التعليم والإعلام الثقافي.
ومعهد المخطوطات العربية المؤسس عام ١٩٤٦م التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، يقود هذا المشروع منذ ٢٠١٣م، عبر إطلاق شعارات سنوية تنفتح على أسئلة العصر، وتكرّم رموز التراث، وتعيد توجيه البوصلة نحو ملامح الهوية الحضارية الجامعة.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشادة بالدور الفاعل للمملكة العربية السعودية في إحياء الاهتمام بالكتاب العربي المخطوط، من خلال مؤسساتها العريقة، ومكتباتها الكبرى، ومراكزها البحثية التي تتبنى هذا الإرث علميًا وثقافيًا، فالمملكة أكبر دولة حديثة بنت مجموعتها الخطِّية بالاقتناء بعد تأسيس جامعة الدول العربية (أكثر من ١٢٠ ألف مخطوط)، وفيها أكبر مركز -غير ربحي- في العالم العربي يحتوي على أصول خطية تناهز الثلاثين ألف مخطوط (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية).
لقد أثبتت المملكة العربية السعودية التزامها الراسخ بحماية الذاكرة العربية المكتوبة، عبر برامج الحفظ الرقمي منذ عقدين، والمبادرات الأكاديمية، والتكريم العلمي للمنجزات التراثية، والمساهمة في صيانة تراث الأمة.
إن التحديات التي تواجه العالم العربي اليوم، في ظل التغيرات المتسارعة، تجعل من العودة إلى المخطوط العربي ضرورةً لا ترفًا؛ فهو لا يحمل فقط علمًا ومعرفة، بل يحمل قيمًا، ومنطقًا في التفكير، ورؤية في الإنسان والعالم. ومن هنا، فإن الاحتفال بهذا اليوم هو في جوهره إعادة وصلٍ بين حاضرنا ومستقبلنا، وبين أصالتنا وطموحاتنا، وبين هويتنا وموقعنا في العالم.
تعليقات
إرسال تعليق