الشجاعة الثقافية لمراجعة "المرويَّة العربية"
قراءة في مشروع (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية)
يغيب عن ذهن كثير من المشتغلين بالتراث العربي، أنّ معظم تصوراتنا لعبقرية الحضارة العربية وإخفاقاتها هي نتاج لدراسات أجيال متعاقبة من المستشرقين الأوروبيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، فلولا هذه الدراسات لم نتلمس الطريق لمعرفة حديث العلم بالعربية قرونًا، ولم يقتصر على إنشاء المراصد الفلكية الشاهقة، أو تفسير عملية الإبصار بطرائق علمية، بل تجاوز كل هذا ليصبح "نمط حياة مدنية" تنسج أزهى مراتب التحضر على موائد الطعام العباسية المتنوعة (٣٠٠ صنف)، المكسوة بأفخر الأقمشة المزينة بالفن العربي الممشوق على أنغام الموسيقى الفارابية المبتكرة؛ والتي كانت تقدم كـطريقة لعلاج العلل النفسية كما جرَّبها الفيلسوف الكندي.
زاد عدد المستشرقين على (٥٠٠) مشتغل بالتراث، وفي سبيل تنظيم دراساتهم الاستشراقية عقدوا (٢٩) مؤتمرًا دوليًا، كان أولها في باريس قبل (١٥٠ عامًا) سنة (١٨٧٣). وبلغ عدد الأبحاث المنشورة في المجلات الشرقية ما يزيد على (١٠٠٠) مجلد، وعدد المؤلفات المبتكرة يزيد على (١٣٠٠) كتاب، وعدد تحقيقات كتب التراث يفوق (١٧٠) تحقيقًا، فضلًا عن دوائر المعارف والموسوعات. معظمها لم يترجم إلى اللغة العربية حتى الآن.
وبالرغم من كل هذا التراكم المعرفي، والتقاليد العلمية المستقرة لمقاربة التراث العربي بأدوات ومنهجيات غربية، أراد
مركز_الملك_فيصل من مشروع "المرويَّة العربية" تقديم مقاربة مختلفة للتراث تنطلق من الذات، لدراسة الفلسفة العربية والعلاقات الثقافية بين الشعوب والحضارات ومراجعة المصادر التاريخية على حدٍ سواء.
من المفهوم أن نعكف عامًا كاملًا لقراءة مشروع "نقد العقل العربي" للمأسوف عليه محمد عابد الجابري من المغرب العربي، أو "رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" لفقيد زمانه طيب تزيني من سوريا، أو "سوسيولوجيا الفكر الإسلامي" لآخر أساطين عصرنا محمود إسماعيل من مصر العروبة.
لكن أن يقدم مركز بحثي سعودي، يأتي من سياقات تقليدية لمجازفة القراءة التراثية المختلفة للتراث، فهذا عمل تقدمي عظيم، يشكر عليه المركز والقائمون على المشروع.
في الختام أتقدم بالشكر الجزيل، لسمو الأميرة الأديبة الخلوقة/ مها بنت محمد الفيصل (الأمين العام للمركز) على كريم دعوتها لحضور المحاضرة الافتتاحية لمشروع "المرويّة العربية"، والأنس بالاستماع لمحاضرة "الجذور العربية لنشأة وتطور الحركة العلمية في الحضارة العربية الإسلامية" للبروفيسور الكبير جورج صليبا.

تعليقات
إرسال تعليق